"بهذه الطريقة ينتهي العالم"

"بهذه الطريقة ينتهي العالم"

01 مارس 2017

يهوشواع سوبول ليس مناهضًا للصهيونية ولا يعارض دولة الاحتلال

+ الخط -
الاقتباس أعلاه من آخر أبيات قصيدة "الرجال الجوف" The Hollow Men للشاعر الأميركي المولد ت. س. إليوت (ترجمها إحسان عباس تحت عنوان "الخاوون")، والذي يقول فيه: "بهذه الطريقة ينتهي العالم، لا بصيحة مدويّـة، إنما بالأنين". وتصف القصيدة المجتمع الأوروبي ما بعد الحرب العالمية الأولى تحت وطأة "معاهدة فرساي" وفقدان الأمل في أي حوار أو جدل. ولكن، ما هي مناسبة هذا الاقتباس هنا؟
مسرحية ساتيرية جديدة بدأ عرضها، أخيرًا، في دولة الاحتلال الإسرائيلية، تحمل الاسم "تنابـذ" الذي يحيل إلى استحالة التوافق. مؤلفها هو المسرحي يهوشواع سوبول. وفيها استبدل دلالة الأنين في قصيدة إليوت بدلالة الرائحة الكريهة التي ينفثها جسم الإنسان عندما يحتقن بالغازات، فتتسبّب بتلويث الأجواء، وتسميم الأنفاس.
وفي مقابلات صحافية أدلى بها، كرّر المؤلف مقولة إن الالتجاء إلى كتابة الساتيرا يأتي عندما يقع المُبدع فريسةً لليأس من تغيير الأوضاع.
سوبول نفسه ليس مناهضًا للصهيونية، ولا يعارض دولة الاحتلال التي أقامتها في فلسطين. بل إنه منذ الحرب على لبنان (في صيف 2006) ومن ثمّ الحروب الدورية على قطاع غزة (منذ أواخر 2008)، يتبنى مواقف أكثر صهيونيةً من التي تبنّاها في السابق (مثلًا، في ذروة الحرب على لبنان كتب مقالًا اعتبر فيه أنها "حرب ضرورية"). وفي عام 2009، وبمناسبة بلوغه سن السبعين، أجريت معه عدة مقابلات صحافية، كانت إحداها مُطوّلة أدلى بها إلى نجله، وحمّل فيها الجانب العربي أوزار النكبة عام 1948، من جرّاء قيامه بما سمّاه "شنّ حرب كانت تهدف إلى تصفية الوجود اليهودي" في فلسطين!
يخوض هذا المسرحي، في "تنابذ"، في تشوّهات الحاضر، مبديًا استفظاعه إزاء كينونةٍ ناشئةٍ في الوقت الحالي، غير أنه، في أعمال مسرحية سابقة، حاول النبش في آثامٍ ارتكبت في الماضي. وبرأيه، ما تزال تلقي بظلالها على الحاضر، ساعيًا إلى ضخّ مداليلها في الوعي العام. وبالنسبة إلى "مُتلقين" مثلنا، يؤدي مسارٌ كهذا، في المعتاد، إلى الكشف عن مزيد من الزوايا السوداء في ذلك الماضي، والتي خضعت لمنظومة المسكوت عنه.
لعل أهم هذه الأعمال هي مسرحيته "غيتو" (1984). فهذه المسرحية أثارت، في حينه، جدلًا واسعًا، كان في مركزه، من جملة أشياء أخرى، جرأة الكاتب في الإضاءة الصارخة لأحد المحرّمات في النتاج الثقافي العبري الذي تعاطى مع موضوع الهولوكوست، وهو تعاون اليهود وبعض قادتهم مع النازيّين في فترة الحرب العالمية الثانية. ونوهنا، في ذلك الحين، بأن هذه الجرأة نجمت أساسًا عن مقتربه من حقيقة أن بعض القادة اليهود اندمجوا بكيفيةٍ ما في النظام النازي إلى درجة التعاون معه. لكن الأهم أنه جعل النجاة من المحرقة، على المستوى النفساني، رهن تعاونٍ ما تمّ مع النازيّين، وهو ما يعتبر "بذرة إثم" متأصلة في الممارسة الوجودية لليهود بشكل عام، واليهود في دولة الاحتلال بشكل خاص. وعلى مستوىً ما، جعل تلك الدولة تحمل في أحشائها بذرة تعاون مع قوى الشرّ، وتبعًا لذلك تحولت إلى جلادٍ لا يضحّي بفرد أو أفراد وإنما بشعب آخر.
تشمل المسرحية إشارات بليغة إلى "دولة اليهود"، باعتبارها اتساعًا أو توسيعًا لـ"الغيتو" الذي تحكّمت فيه أنماط سلوكية ليست مغايرةً عن الأنماط التي تتحكم بالدولة، كما لو أنها جاءت امتدادًا طبيعيًا له، واتسمت بالخصائص الفردية كلها لمن كانوا على رأس تجربة السلطة في "الغيتو".
كانت هذه المسرحية في وقتها بمثابة شهادةٍ على أن اليهود ليسوا أسمى أخلاقيًا من بقية بني البشر، ويمكنهم التعاطي بإيجابية مع "قوى الشر"، لتحقيق أهداف جماعية وفردية، بالإضافة إلى أنهم ليسوا محصّنين من ارتكاب فظائع بحق مجموعاتٍ أخرى، كالسكّان الفلسطينيّين أصحاب البلد.
وفي مسرحية "تنابذ"، ثمّة تلميح إلى أنهم ليسوا محصنين أيضًا من الإساءة إلى أبناء جلدتهم، شأنهم شأن النار التي تأكل نفسها، حين لا تجد ما تأكله.