الجدران العازلة الفاشلة

الجدران العازلة الفاشلة

27 فبراير 2017
+ الخط -
في فترة الحرب الباردة، كان سور برلين رمزاً للقطيعة والانفصال بين المعسكرين الشرقي والغربي. وفقد آلاف من الألمان أرواحهم، وهم يحاولون عبور سور برلين، قبل أن ينهار أمام حركة التاريخ وإرادة الشعوب. وفي السنوات الأخيرة، تزايد استخدام الجدران العازلة على الحدود بين الدول، لمواجهة تدفق المهاجرين، واتقاء أعمال العنف التي تتم أحيانا بواسطة أفراد متسللين عبر الحدود، فضلاً عن عمليات تهريب الأسلحة والمخدرات. والحاصل أن تلك الجرائم والظواهر التي تعاني بعض دول العالم منها مستمرة، وتنتشر على الرغم من إقامة الأسيجة وتشديد الرقابة على الحدود. والسبب، ببساطة، أن مواجهة تلك الظواهر لا يكون فقط بمحاولة منعها والتصدّي لتجلياتها، وإنما في تجفيف منابعها ومعالجة البيئة التي تفرزها. أما تلك الحمائية البدائية، فهي، في جوهرها، عجز عن فهم الآخر وإفهامه. فالاختباء وراء حائط أو جدار إسمنتي إجراء هروبي، وليس حمائياً. والمثال الصارخ على ذلك الجدار العازل الذي أقامته إسرائيل حول بعض المناطق الفلسطينية المُحتلة، ظناً منها أن العزل والحصار سيُثني الفلسطينيين عن مقاومة الاحتلال، بينما هو بذاته يدفع نحو تصعيد المقاومة، ويؤجج الاحتقان لدى أصحاب الحق.
أما الجدار الذي سيقيمه ترامب على الحدود الأميركية مع المكسيك، فيقدم مثالاً نموذجياً على ضيق أفق الرئيس، الذي لا ينظر إلا تحت قدميه، ففضلاً عن أن المشروع يعود إلى عام 2006 عندما أقرّ الكونغرس بناء جدار على ما يقرب من نصف الحدود مع المكسيك، الأهم أن له تأثيرات سلبية على الاقتصاد الأميركي الذي يعتمد، في جانب منه، على العمالة المكسيكية، إضافة إلى التبادلات التجارية.
في عالمٍ يعتمد على الانفتاح المتبادل والتواصل الحر، وتجتاح العولمة كل بقعة فيه، فإن إقامة الحواجز على الحدود أمرٌ شديد البدائية ومتخلف. فقد يكون مفهوماً أن تقام الجدر بشكل استثنائي، ولفترات مؤقتة، بين دول متحاربة أو تخشى موجات نزوح جماعي عبر حدودها. أما ما يقوم به ترامب وأشباهه، فليس إلا محاولة يائسة لمنع وصول المهاجرين أو الإرهابيين، من دون جهد حقيقي باتجاه علاج محفّزات الهجرة أو البحث في مسببات اللجوء إلى العنف. هذه الجرائم والظواهر التي فرضت نفسها على الحدود بين الدول، حلها ليس في إغلاق الحدود، أو تشييد سياج أياً كان عمقه أو ارتفاعه. فالجُدُر والحواجز لا تشرعن احتلالاً، ولا تحمي دولةً أو تقي شعبها شر العنف، وإنما فقط تعكس قصور الفكر ومحدودية القدرات لدى الساسة وأصحاب القرار. ومن المضحكات أن معظم الذي بنوا تلك الجدران هم من يطالبون دائماً بالحوار، ويرفعون شعارات التعاون والتسامح والانفتاح على الآخر. فبدلاً من البحث في جذور العنف، ودواعي انتشاره وانتقاله عبر الحدود، ثم سبل معالجته، واجتثاث أسبابه، تجنباً لانتشاره، فضلاً عن استمراره، تأتي الجدران والحواجز لتحاول تطويق العَرَض، وليس علاج المرض.
تأثيرات الجدران والفواصل أعمق من أهدافها السياسية والأمنية المباشرة، ففضلاً عن أنها تعكس روحاً عنصرية أحياناً وانعزالية دائماً، الأخطر أنها تمثل دعوةً صريحةً لتقسيم العالم إلى كانتونات بشرية مُنكفئة على نفسها، ومكتفية بذاتها عن غيرها. ولا تحتاج استحالة تحقق ذلك واقعياً إلى إثبات، لكن مخاطره الكارثية لن تقف عند عدم تحقيق أهدافه، وإنما ستكون النتائج عكسية. فببساطة، استبعاد الآخر والتعامل معه بتعال وعنجهية، وتعميم الاستثناء على شعب بأكمله، هي بذاتها عوامل تزرع الكراهية والفتنة بين الشعوب. وعلى الرغم من أن تلك القرارات العنصرية يتخذها الرؤساء والساسة، إلا أن الشعوب وحدها تتحمل نتائج تلك الجدران العازلة الفاشلة ومثالبها.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.