يمينهم ويميننا، من الأكثر تطرّفاً؟

يمينهم ويميننا، من الأكثر تطرّفاً؟

26 فبراير 2017
+ الخط -
تتفاقم شعبية اليمين المتطرف العنصري والمعادي للأجانب والشعبوي وصاحب الخطاب السيادي المتصلّب في دول العالم من الفيليبين إلى الولايات المتحدة، ولكنه يحقق نجاحات مقلقة في أوروبا بشرقها وغربها منذ سنوات عشر. حيث يجد هذا التوجّه أرضاً خصبة في مجتمعات الرفاهية الغربية، والتي تعاني من أمراض الوعي السياسي الشامل، وإن كان بصورة نسبية مقارنة بدول العالم المتخلف. كما تساعد مسألة التمسّك بالهويات الإقليمية والمحلية دعامة لمثل هذه التيارات التي استغلت، بنجاح، أفول فورة الانفتاح الغربي، وتعزيز العلاقات البينية والإقليمية، إثر خسارة ألمانيا الحرب العالمية الثانية، وما تبعها من خطواتٍ عزّزت من فرص إنشاء كيان أوروبي موحد، يمنع عودة الضغينة والحرب، فكان الاتحاد الأوروبي المستند أساساً إلى المصالحة الألمانية ـ الفرنسية، بعد عداء استمر عشريات متعدّدة في القرن العشرين.
يتلطّى اليمين المتطرف الأوروبي وراء حجج عديدة لتبرير مواقفه الإصائية والتمييزية، لكنه، ومع تطوّره وتمدده غير المسبوق، يُعيد النظر في شكل التعبير السياسي لديه، محتفظاً بالمضمون. فقد صار من الطبيعي، بل والمؤكد، أن يلجأ زعماؤه إلى المرجعية الجمهورية التي أسّست للديمقراطية الحديثة. كما أنهم لا يتوانون عن استخدام مقولات وكتابات من يمكن اعتبارهم غرباء أيدولوجيين عن مفاهيمهم المحدودة. فعلى سبيل المثال، لا تتوقف زعيمة اليمين المتطرّف الفرنسي، مارين لوبين، عن استخدام مقولات جان جوريس، أبو المدرسة الجمهورية ورمز الفكر اليساري الديمقراطي الذي كان متمثّلاً بالحزب الاشتراكي الفرنسي في السنوات الماضية، قبل أن "يتيمنّن"، حيث أن الاشتراكيين الجدد يتجاوزون، أحياناً، في الجرأة، بعض المواقف الاقتصادية والاجتماعية التي وصم بها اليمين طوال عقود.
يلجأ اليمين المتطرّف إلى خطاب "السهل الممتنع"، الباحث دائماً عن شدّ انتباه واهتمام، 
وبالتالي، اقتراع، من تؤثّر بهم سياسة الخوف والتخويف أساساً. والخوف عامل فعّال يؤتي أكله في كل الحقول من السياسة إلى الاقتصاد، مروراً بالثقافة ومسألة الهوية. وهذا الخطاب المتطرف إذاً يسعى إلى إسماع المتلقي المتلهّف ما يحب أن يسمعه، أو ما يعتقد أنه يُحب سماعه من عبارات السيادة الوطنية إلى الخصوصية الثقافية إلى الخوف من الأجنبي "المتوحش" أو "آكل الرغيف" أو المختلف ثقافياً. يستند هذا الاختلاف الثقافي دائماً، في الخطاب اليميني المتطرّف، إلى الاختلاف الديني، بل ويكاد يكون محصوراً فيه. في المقابل، تظهر حركات يسارية متطرفة تستخدم الأسلوب نفسه، المعتمد على إسماع المتلقي ما يشاء. وفي التوجهين، يكون الخطاب متغيّراً حسب الظروف القائمة. ومن الطبيعي جداً، بل والمتكرّر دائماً، أن يُناقض هذا الخطاب نفسه، معتمداً على الذاكرة السمكية للناس بطريقة تكاد تكون كاريكاتورية.
وعلى الرغم من وجود قواسم مشتركة للمتطرّفين اليمينيين في الدول الأوروبية، إلا أنهم يتمايزون حسب الموقف المحلي من قضايا مختلفة. ومهما كان تنسيقهم الإقليمي متطوّرا، إلا أن لهم حرية الحركة والتوجه والتراجع والتناقض التي تُعتبر من أهم العوامل المساعدة على انتشارهم محلياً، فإن كانت معاداة السامية مقبولةً نسبياً في شرق أوروبا، فيتم بالتالي امتطاء صهوتها لحصد الأصوات، فيمين غرب أوروبا يبتعد عنها، بعد أن كانت محبوبته، محاولاً أن يُظهر نفسه في موقع أكثر انفتاحاً، مؤدياً به إلى مغازلةٍ دينيةٍ، تصل إلى درجة التحالف السياسي.
وتُعتبر مارين لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية، من "أذكى" المتطرّفين يميناً، حيث أنها تجاوزت اللغة الممقوتة سياسياً لوالدها، مؤسس الجبهة، وأخرجت حزبها من لائحة "غير المحبّذ معاشرتهم" من المجموعات السياسية الهامشية، فصارت الجبهة تتصدّر المشهد السياسي الفرنسي، معتمدة على ناخبين ملتزمين، ومستفيدة من نسبة مرتفعة من الاستنكاف الانتخابي لدى الشرائح الأخرى من المواطنين. وبعد أن حازت الجبهة على نسبة تقارب 18% في انتخابات 2012 الرئاسية، وصلت نسبتها في الانتخابات الأوروبية إلى 25% سنة 2014، لتصبح 28% في الانتخابات الإقليمية الفرنسية سنة 2015. وتتحدث استطلاعات الرأي عن نسبٍ مقلقة للغاية، يمكن أن تصل إليها الجبهة الوطنية في رئاسيات إبريل/ نيسان ومايو/ أيار المقبلين.
يبقى القول إن دولة القانون قائمة في الدول الأوروبية حتى يثبت العكس، وإن الصحوة
الجمهورية القيَميّة كانت دائماً على الموعد، لصدّ اكتساح اليمين المتطرّف واجهة القرار السياسي، كما حصل أخيرا في النمسا. ومن المتوقع، وربما من المنشود، حدوثه في فرنسا قريباً جدا. في المقابل، تجد هذه الأحزاب الكارهة للعرب والمعادية للمسلمين ولليهود، دعماً وتبنياً من عربٍ ومسلمين ويهود. وعلى الرغم من أن نسبة 15% من المقترعين للجبهة في الانتخابات، أخيرا، كانت من أبناء الطائفة اليهودية، إلا أن هذا الاقتراع يُترجم بتلاقي التطرّف اليميني الإسرائيلي المؤثّر على ناخبين خارج الدولة، مع التطرّف اليميني الفرنسي، على الأقل في مسألة معاداة العرب والمسلمين. أما في الدول العربية، ومن يلوذ بها جغرافياً، فاليمين المتطرّف هو غالبا في سدة الحكم، بفضل وجود أنظمة مفتاحية تتبنى حرفياً أدبيات التطرّف اليميني ضد حريات التعبير والتنظّم، كما أنها تستغل رهاب التطرّف الديني لتبرير تعسفّها. وتجد نقاطاً مشتركة مع لوبين وأترابها.
زيارة لوبين أخيرا إلى بيروت، والاحتفال المسرحي بها، ليست إلا نقطة في بحر الالتفاف السلطوي العربي على هذا التطرّف اليميني، والذي ربما كان هو الذي أوعز لزبائنه اللبنانيين باستقبالها وتكريمها والتزلّف لها، بسردياتٍ تاريخيةٍ كاذبة تشبه سرديات بروتوكولات حكماء صهيون.