حلايب والفكر الخائب

حلايب والفكر الخائب

25 فبراير 2017
+ الخط -
قضية حلايب خائبة ومعركة في غير معترك، وهي عرض لمرض سياسي يصيب مصر والسودان معا من حين إلى آخر، أكثر منها قضية تثير اهتمام الرأي العام في كلا البلدين. حينما تثار، تتذكر المؤشر الثابت الذي يحس به السوداني مباشرة عند مطار القاهرة، حينما تطول فترة انتظاره في إجراءات غير مفهومة وتستغرق وقتاً طويلاً. حينها تدرك أن ثمة شيئا ما على غير ما يرام بين حكومتي مصر والسودان. وهكذا حلايب، نوع من الحوار السمج والخشن المفتعل بين قيادتي البلدين أكثر منه قضية قائمة يُراد لها حل. هي قضية منسية لا تستوقف أحدا، فحينما كانت مصر بعنفوانها، أيام الرئيس جمال عبدالناصر، لم تكن مصر لتشغل بالها كثيرا بهذه المسألة، وارتضت لحلايب التبعية الإدارية للسودان، والسودان حينما كان في مقدوره إثارة القضية سيادة وحقا اختار وقف الجدل بشأنها، وفضل تركها منسية ضمن آلاف القضايا في أرشيفات الأمم المتحدة. وأهل حلايب أنفسهم، على قلتهم من قبائل البشاريين، حينما كان الاقتصاد السوداني بصحة وعافية، كانوا أكثر اهتماما بسودانيتهم، ويحرصون على جواز السفر السوداني، ويفضلونه على المصري، لأن السودان وقتها يضمن لهم التعليم المرغوب، والصحة الموفورة، والسوق العامر ببضائعه، وبكل ما يخطر على بالهم. ولمّا تدهورت صحة اقتصاد السودان، شأن كل شيء في السودان اليوم، أصبحت مصر الملاذ، فوجدوا الموئل في الجواز المصري، واحتموا بمكتسبات المواطنة المصرية. وكانت هذه العملية تتم بتلقائية قبلية، بعيدا عن عدسات الشارع السياسي والصحافة في البلدين. يعرف أهلنا البشاريون أكثر من غيرهم جغرافيا المنطقة وتعاريجها. ولذا، هم بغض النظر عن الجدل الرسمي أحرار في تجوالهم في المنطقة، من مصوع جنوبا في أريتريا وحتى حلايب وشلاتين ومدن البحر الأحمر على الساحل المصري. 

وبذلك، تبدو حلايب أشبه بالزائدة الدودية، فحينما تستعر مصاعب الحياة في البلدين، تلتهب،
وتحط الحكومات خيباتها في منطقة قفر اسمها حلايب. واليوم، في هذه السنوات العجاف التي تساوت فيها حال البلدين اضطرابا سياسيا وأمنيا وترديا وفقرا وتراجعا مخيفا في الديمقراطية وفي الاقتصاد وفي التعليم وفي الثقافة، أصبحت حلايب قضية مقدّمة يتجاذب عليها الطرفان. وليتهم في القاهرة أو الخرطوم امتلكوا الشجاعة، حتى يقدموا بيانا بما قدّموه لترقية تلك المنطقة تنميةً في أي اتجاه. والمرجح أن ناس تلك المنطقة غير عابئين بما يثار بشأنها، وهم يعرفون أكثر من الرسميين أنهم لا يعترفون بالحدود التي تختصم عليها حكومتا البلدين، فكل تلك الأرض التي يسرحون فيها بحلالهم لهم، ولا شيء يوقفهم. وحدهم يدركون مدى حريتهم في الحركة رعاة مع حلالهم بحسب الفصول والمراعي والمياه.
سيقول سودانيون كثيرون إنها أرض سودانية، وسيقول مصريون الكلام نفسه، فيما القضية خائبة ومعركة في غير معترك. أنظر إلى الأطلس الجغرافي، حينما طبع ذات يوم، وفق السلم التعليمي في السودان، جاء يومها من مطابع مصر بلا حلايب ولا شلاتين. ومع ذلك، لم تثر تلك الضجة بحكم العلاقة الجيدة بين البلدين وقتها، فيما تعلمت الأجيال السابقة الجغرافيا على الأطلس الإنكليزي، فكانت حلايب وشلاتين سودانيتين. والحالة عربية شائعة، فحينما تطالع جغرافيا المدرسة في أي دولة عربية، يطل الطلاب من نافذة جغرافية العالم العربي، من خلال رؤية موطن طباعة الخرائط، فتظهر أكثر من حلايب، وتختفي تبعا لجهة الطبع. الخرائط الإنكليزية مع السودان، علما بأنها كانت المستعمر لمصر أيضا، وأهل حلايب يهتمون بمصالحهم، وظلوا تاريخيا لا يهتمون كثيرا بمن يحكم مصر أو السودان، وإنما بمصلحتهم المباشرة، لأنهم أهل رعي ومراع.
في خيمة مصرية، في مهرجان الجنادرية أخيرا في السعودية، كتب عليها حلايب وشلاتين، كان الشباب الذين جلبوا، في رمزيةٍ لافتةٍ، ليثبتوا مصرية حلايب، صادقين إلى أبعد حد في التعبير عن مشاعرهم، فشدا مغنيهم بأغاني سيد خليفة السوداني. ولهذا المشهد دلالته، وهو أصدق تعبير على تفاهة الفكر السياسي المضطرب المسيطر في البلدين. وقد حان الوقت لحكومتي مصر والسودان أن تفكرا معا، وفي ظل الظروف الاقتصادية الطاحنة التي يعاني منها البلدان، في إيجاد ما هو مشترك، للاستفادة من معطيات التقارب التاريخي والجوار والنيل الذي يجمعهما، لإنجاز أمور تفيد شعبي البلدين، والاستفادة برصيدهما المعرفي والزراعي والصناعي أداة وسبيلا لتقدم الشعبين ورفاهيتهما. وقد وضع مغني حلايب حكومات البلدين أمام اختبار حقيقي بأن الشعب متصالح مع نفسه، ولا يعبأ بتفاهة الفكر السياسي. والتوجه الذي تسير عليه الحكومتان، في هذا التوقيت بالذات، بإثارة قضية حلايب، هروب أعمى من تحمل مسؤولية الأوضاع المتردية في مصر والسودان، فهي المقدمة والأكثر إلحاحا.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.