هروب من "خبر عاجل"

هروب من "خبر عاجل"

24 فبراير 2017
+ الخط -
يدور المرء بعينيه بين سيلٍ من الأخبار لا ينقطع، يتلاطم فيه المحلي مع الدولي، والعربي مع الأجنبي، وكأنما دوّارٌ أصاب العالم، فجعله يقذف بكل ما فيه من قصص وأخبار عاجلة وغير عاجلة، تستقبلها سواء كنت قاعداً أو قائماً أو نائماً. تقلبها، تقرأها، يصيبك الهلع من بعضها، ويأخذك بعضها إلى مرحٍ مؤقتٍ، ينتهي مع ورد خبر آخر أكثر هلعاً، تزيح وجهك عنه، فيباغتك مرة أخرى عبر خدمة الأخبار السريعة علي جوّالك. تهرب بجسدك بعيداً عن منطقة النزاع ومصدر الأخبار المفزعة، تلحقك ذاكرتك بك، لا تتركك ولا تغادر مخيالك، فهي جزءٌ منك، بل هي الجسر الواصل بين جسدك وعقلك وموطنك. تتظاهر بعدم الاكتراث، تغلق جوّالك، تفتح كتاباً، تغرق بين حروفه، يأخذ عقلك وجسدك إلى مساحةٍ أخرى، ربما أقلّ ضغطاً ولكن أكثر إرباكاً. تتذكّر تلعثمك في نطق الحروف في صفك الأول قبل عقود، بينما أنت الآن غارقٌ في معانيها، تحاول ربط أجزائها كي تفهم ما يدور حولك. تكبر، ويكبر خيالك معك، وتتسع حدقة عينيك مع كل خبرٍ "عاجل" قد يبدو لوهلة غريباً، ولكنه يتطلب منك أن تطبّع نفسك وعقلك معه حتى لا يصيبك مسّ من الجنون.
يصاحبك الأرق، فتهرب من الواقع إلى الخيال. تمتد يداك إلى رواية لإبراهيم أصلان أو لجورج أورويل أو أورهان باموق، تغوص فيها، تأخذك حبكتها، وحكايات شخوصها، بعيداً ولكن ليس بعيداً جداً إلى الحد الذي قد تنسى فيه واقعك، فواقع الرواية الأصيلة قد يكون أشدّ كآبة وقهراً من واقعك، ويكفيك هنا أن تقرأ "الحرب والسلم" لتولستوي أو "مئة عام من العزلة" لغارثيا ماركيز، كي تعرف أن الخيال يكون أحياناً أصعبّ وأشدّ من الواقع. ولكن المأساة أن تصل إلى مرحلةٍ يغلب فيها الواقع كل درجات الخيال في مأساويته ومفارقاته. وقتها، لا تملك سوى الصمت والرغبة في الفناء. فحين تقرأ خبراً أن قادة عرباً التقوا نظراء لهم صهاينة سراً، من أجل الاتفاق على عربٍ أخرين، ثم يصدر الخبر عمن يُفترض أنهم خصوم، بينما يلوذ القادة العرب بالصمت المخجل، وكأنهم ضُبطوا متلبسين، تشعر بأن الواقع قتل الخيال وأزهق روحه. وحين تقراً خبراً آخر أن رئيساً عربياً يقتل شعبه بالغاز السام، من دون أن يحرّك ذلك ساكناً شرقاً أو غرباً، تصبح الرواية عاجزةً عن وصف واقعٍ كهذا، فاق في دناءته كل خيال. وحين تعرف أن رئيساً آخر عاجزاً عن الحركة، ويدير بلاده من فوق مقعد متحرك، يأبى تركه والنزول عنه، فاعلم أن خيال الروائيين لم يعد قادراً على مجاراة هذا الواقع الكئيب. وحين تشاهد رئيساً لدولةٍ عظمى، أو هكذا يُقال عنه، يهذي بترّهات وأكاذيب ويستخدم لغة وقحة، بينما العالم لا يحرّك ساكناً، فاعلم أن الخيال على وشك أن يهرب من كوكبنا، وهو يصب علينا كل اللعنات.
لا تهدأ إلا حين تقرأ خبراً من تلك الدولة أن علماءها اكتشفوا سبعة كواكب جديدة بحجم كوكبنا هذا، عليها صخورٌ ومياه، بما قد يؤشر إلى وجود حياة وربما كائنات أخرى، تشاركنا هذا العالم الفسيح. يسرح خيالك مجدّداً، تحلم بأن تهرب إلى أحد هذه الكواكب، وأن تعتزل الأرض، وذلك إلى أن تصحو من حلمك على أزيز خبر آخر "عاجل". ولكن، هذه المرة عن شخص فجرّ نفسه هنا أو هناك. يصيبك الهلع، وتطاردك أشباح الواقع، خوفاً من أن تجد على تلك الكواكب كائنات أخرى أكثر عنفاً ودموية، فتعود إلى واقعك، تُطبّع نفسك معه، تسايره، ولو مؤقتاً، بعد أن صار أقصى طموحاتك هو أن يتوقف شريط الأخبار العاجلة.

دلالات

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".