بوتين والمعضلة الإيرانية

بوتين والمعضلة الإيرانية

24 فبراير 2017
+ الخط -
لطالما أرّقت المعضلة الإيرانية القادة الروس. تاريخياً، كانت إيران الضعيفة مدخلاً للقوى الأوروبية والغربية لتطويق الروس، وإذا ما قويت غدت شوكةً في حلقهم، لكن الأمور اختلفت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

ليس التعامل سهلاً بين من يتقاسمون حدوداً واحدة، بحراً واحداً، وموارد هيدروليكية مشتركة، والأكثر صعوبةً هو أن التعاون بين جيران تاريخهم محمل بالأثقال. مع ذلك، وجد الكرملين طريقاً رائعة للتعامل مع إيران: استخدامها ورقة في الصراع الدولي. هكذا كان تحسّن العلاقات الروسية الإيرانية، بعد نهاية الحرب الباردة، مقياساً على تدهور العلاقات الروسية الأميركية، أو وجود مطالب تريد موسكو من واشنطن تحقيقها. ظهر التجسيد الأبرز لهذه المعادلة في الاستثمار الروسي المدروس بمفاعل بوشهر الإيراني، والذي كان يتأرجح على وقع العلاقة الصعبة مع الولايات المتحدة.
وخلال السنوات الست عشرة الماضية، تتالت الصفقات الأميركية الروسية على حساب إيران، بل لم تجد موسكو حرجاً في عقد صفقات مع تركيا على حساب إيران، سواء فيما يتعلق بالغاز والنفط أو فيما يتعلق بسورية.
مع ذلك، لا ينظر الكرملين إلى إيران أداةً في الصراع الدولي، فحسب. فإذا ما جال القادة الروس نظرهم في منطقتهم، سيجدون إيران دولةً إقليميةً، وإحدى دول الجوار القريب لبلادهم. هذا ما يدفع الكرملين إلى تبني سياسة مزدوجة حيال إيران. الشعبة الأولى لهذه السياسة تتعلق بالصراع الدولي، يستخدم فيها الكرملين العلاقة مع طهران "منجماً للفرص"، بهدف الضغط على واشنطن والعواصم الأوروبية. أما الشعبة الثانية، فتتمثل بـ "تزبيط وتركيز" الترس الإيراني في نظام الأمن القومي الروسي.
ويشكل وجود العازل القوقازي عامل استقرار للعلاقة المعقدة تاريخياً بين إيران وروسيا، على 
الرغم من أن تشارك الدولتين في بحر قزوين يثير أجواء مشحونة بينهما. يوفر هذا العازل للعاصمتين الفرصة، لكي لا يصرفا طاقاتهما في احتواء بعضهم بعضاً.
ويبني الكرملين سياسة إقليمية، تأخذ بعين الاعتبار التنوع الإسلامي الكبير في دول الجوار الروسي. بكلماتٍ أخرى، يشتق اسراتيجية تقليدية للتلاعب بالتناقضات ما بين المسلمين أنفسهم، تحت عنوان "فرّق تسد". ولإيران دور كبير في هذا المجال. فالإيرانيون يمتلكون خاصية مميزة بالنسبة لجيرانهم الروس؛ تتمثل في أنهم متفردون عن وسطهم الحضاري؛ فهم الشعب الفارسي المسلم على المذهب الشيعي بين بحر تركي سني يطوّق روسيا ويخترقها.
هذا التمايز هو المفتاح الرئيس لفهم سياسة روسيا الإقليمية تجاه إيران. ففي آسيا الوسطى الدول كافة، تركية القومية، مسلمة على المذهب السني، باستثناء طاجيكستان التي ينحدر غالبية شعبها من الأرومة الفارسية، لكنه مسلم على المذهب السني، وتركمنستان، الشيعية المذهب إلا أن شعبها تركي القومية. كما تختلف إيران عن أذربيجان الشيعية بأن شعب الأخيرة تركي القومية، وحتى عن العراق الذي يشكل أتباع المذهب الشيعي أكثر من نصف سكانه، حيث الغالبية الساحقة من العرب.
والحال هذه، فروسيا التي تضم أكثر من 25 مليون نسمة من المسلمين السنة المنحدرين من الأرومة التركية لا بد أن تعمل على التعاون إسلامياً مع طهران، كما تتعاون معها بوصفها مخفراً متقدماً في وجه النفوذ الأميركي المتغلغل على مقربة من روسيا، سواء أفغانستان أو الخليج العربي أو تركيا.
إيران المهمة إلى هذه الدرجة هي من قرّر الزعيم الروسي، فلاديمير بوتين، دعمها في ما اعتبره وزير خارجيته، سيرغي لافروف، حرباً سنيةً شيعيةً مركزها العراق وسورية إبّان أزمات الربيع العربي، تحقيقاً لعدة أهداف: أولها الحفاظ على المصالح الروسية في شرق البحر الأبيض المتوسط وسورية. ثانيها، منع انتصار الدول الإقليمية السنية في الصراع السني الشيعي، خوفاً من انتعاش السنة في روسيا ذاتها وجوارها. وأخيراً، القضاء على محاولات واشنطن تطويق إيران وجرّها إلى الحضن الأميركي.
وعلى الرغم من اقتطاع روسيا مواقع على الساحل السوري، إلا أن موقعها ضمن اللعبة الشرق الأوسطية الدولية لا يزال متخلخلاً إلى أبعد مدى. وأظهرت الخطوات الأولى لإدارة الرئيس
الأميركي دونالد ترامب إلى أي مدىً ممكن أن تتحول موسكو إلى طرف معزول وهامشي في المنطقة. فالمواقف الأولية لهذه الإدارة، المخططة بعناية، خلخلت علاقات روسيا مع كل من الأردن ودول الخليج وتركيا، ومصر، وأعادتها إلى طبيعتها خياراً ثانياً لهذه الدول، لابتزاز الأميركيين. هكذا، وبين يوم وليلة عاد الدفء بين واشنطن وحلفائها الإقليميين، وحلت البرودة بين موسكو والعواصم الشرق أوسطية. ولقد أدت هذه البرودة إلى تسخين الجبهة الجنوبية في سورية، بينما تسبب تراجع الود التركي الروسي في تعقيد المفاوضات العسكرية السورية في العاصمة الكازاخستانية أستانة.
وتعتزم إدارة ترامب لعب كرت "الدول السّنيّة" في المواجهة المزدوجة ضد تنظيم داعش وإيران، وهدفها النهائي يتمثل في استعادة السيطرة على مستقبل العراق، وتقوية النفوذ الأميركي في الخليج العربي. وإذا كان الوضع كذلك، فإن الكرملين لا يمكنه إلا أن يكون منزعجاً، فتنظيم المنطقة ما بعد "داعش"، لن يتم بمعزل عن إيران وأدواتها الإقليمية، فحسب، بل سيتم بالضد من مصالحها ولصالح منافسيها الإقليميين الذين سيكونون موجودين على طاولة التسويات، إلى جانب حلفائهم الأميركيين، في قبالة الطرف الروسي فقط (لأن إدارة ترامب سترفض على الأغلب وجود مفاوضين إيرانيين). وبالتالي، سيجد الكرملين نفسه، في نهاية المطاف، عامل تعزيز لبناء شرق أوسطي يستبعد إيران، ويساهم في تقوية حلفاء أميركا في الشرق الأوسط، ويعمل لتحقيق مصالحهم، بينما تعود طهران أدراجها إلى زاوية المنبوذين.
إذن، هذه هي المعضلة الإيرانية التي تستحوذ على فكر المخططين الروس الآن، فهم موزعون بين رغبتهم في احتكار الموقع الإيراني ولعبه على طاولة السياسة الدولية (وعينهم في هذا الصدد على احتمالات صفقة مع واشنطن بشأن الدرع الصاروخية وأوكرانيا)، وحاجتهم إلى فرادة إيران عن وسطها الحضاري الذي تعاديه موسكو، ومخاوف بلادهم التقليدية من إعادة تشكيل المنطقة بنفوذٍ وأدوات أميركية، تؤدي إلى تقليص الحصة الروسية في الكعكة الشرق أوسطية.
من هنا، يأتي إصرار روسيا على مشاركة إيران في الحرب ضد الإرهاب، كي يضمنوا لها مقعداً على طاولة ما بعد "داعش"، وشغف الروس بتعزيز العلاقات مع إيران بشكل سري وحذر، بعيداً عن أعين العالم، كي لا يؤثر على خياراتهم حيال إدارة ترامب. ... وإلى أن يحل بوتين هذه العقدة الإيرانية، ويقرّر بشأنها، سيستعصي حل أزمات المنطقة، وربما تتفاقم.