هذا الجدل بشأن مؤتمر فلسطينيي الخارج

هذا الجدل بشأن مؤتمر فلسطينيي الخارج

24 فبراير 2017
+ الخط -
يعيد رَدُّ الفعل المبالغ فيه من قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينيتين، ومعهما حركة فتح التي تهيمن عليهما، على الدعوة إلى عقد "المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج"، والذي تنطلق وقائعه اليوم (الجمعة 24/2)، ويستمر يومين، يعيد نكء جراحات الماضي بشأن مسألة شرعية ووحدانية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني. وكانت شخصيات ومؤسسات وطنية فلسطينية قد أعلنت، نهاية الشهر الماضي، عزمها تنظيم مؤتمر للفلسطينيين المقيمين خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتفعيل دورهم الوطني وتأطير مشاركتهم في القرار السياسي الفلسطيني، ووقع على بيان الدعوة إلى المؤتمر نحو 70 شخصية فلسطينية من كل الخلفيات الفكرية والسياسية.
من ناحية المبدأ، من حق فلسطينيي الخارج، والذين يمثلون نحو نصف الشعب الفلسطيني البالغ تعداده قرابة الثلاثة عشر مليون إنسان.. من حقهم أن يكون لهم إطار يجمعهم ويعبّر عنهم، خصوصاً وأن منظمة التحرير لم تعد، عملياً، ذلك الكيان المعبر عن الهوية والكينونة الفلسطينية في كل أماكن وجودها. إنها قيادة منظمة التحرير نفسها هي من قرّرت الاستقالة من هذه المسؤولية، ولم يكن ذلك نتيجة جهود من تحدّى شرعية ووحدانية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني على مَرِّ العقود.
منذ وقعت قيادة المنظمة اتفاق أوسلو مع إسرائيل عام 1993، وما تلاه من تشكيل سلطة فلسطينية في بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، تحوّلت منظمة التحرير، تدريجياً، إلى دائرة ملحقة بالسلطة، وتمّ اختزال الهَمِّ والشعب الفلسطينيين في المقيمين في
الضفة الغربية وقطاع غزة. ما عنى أن أكثر من نصف الشعب الذين يقيمون في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وخارج حدود فلسطين التاريخية، أصبحوا من دون مظلة تمثيلية. هذه حقيقة مهما زعم قادة المنظمة وقادة السلطة غير ذلك. أبعد من ذلك، لم تتردّد منظمة التحرير لحظةً في هيكلة الانحراف عن شرعية ووحدانية التمثيل للقضية والشعب. فالمجلس الوطني الفلسطيني (برلمان المنظمة) هو من عدّل 16 بنداً، وألغى 12 آخر، من أصل ثلاثين، من ميثاق منظمة التحرير عام 1996، وقد تم إقرار تلك التغييرات في جلسةٍ هزليةٍ للمجلس في قطاع غزة بحضور الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون. وقد مسّت البنود التي تمّ تعديلها أو إلغاؤها بتعريف فلسطين من بحرها إلى نهرها، أي بتعريف الشعب الفلسطيني نفسه استتباعاً، كما مسّت مبدأ المقاومة المسلحة في صيرورة التحرير، وبطلان وعد بلفور وقرارات التقسيم.
لم يتوقف هذا المسلك التنازلي في سياق نزع شرعية التمثيل عن المنظمة من قيادتها وقيادة السلطة المتماهيتين، فقيام دولة فلسطينية على بعض أجزاء الضفة الغربية وقطاع غزة، بعاصمة في بعض أحياء شرقيِّ القدس المحتلة، هو غاية منى هذه القيادة. وفي سبيل ذلك، اعترفت بمبادرة السلام العربية لعام 2002، والتي تتنازل عن حق الغالبية العظمى من اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أراضيهم التي هجّروا منها. ولا يُنسى هنا أن وثائق التفاوض الفلسطينية التي كشفت عنها "الجزيرة" أواخر عام 2010، فضحت المستور، أن وفد التفاوض الفلسطيني قبل بعودة، وعلى دفعاتٍ سنوية، أعداد محدودة من اللاجئين، زمن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود أولمرت، إلا أن حكومته رفضت، حتى الالتزام، بذلك. دع عنك تحول السلطة الفلسطينية إلى وكيل أمني وَبَلَدِيٍّ يقوم بالمهمات القذرة نيابة عن الاحتلال.
للأسف، قرار تهميش المنظمة، بل تهشيمها، هو قرار قيادتها نفسها. في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، كان الرئيس الراحل، ياسر عرفات، رحمه الله، يتهم حركة المقاومة
الإسلامية (حماس) برفض وتحدي شرعية ووحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني. وفعلاً، لم تكن "حماس" تقبل بشرعية تمثيل المنظمة، حينها، بناء على الأسس التي كانت قائمة عليها، وخصوصاً قبولها بالقرارات الأممية التي تسلخ، على الأقل، 78% من فلسطين التاريخية. ولكن، ومنذ تولى محمود عباس، رئاسة المنظمة، وتالياً السلطة الوطنية الفلسطينية، أواخر عام 2005، وخروج الحالة الفلسطينية من عباءة شرعية "الأب" التي مثلها عرفات، فإن حماس، ومعها الجهاد الإسلامي، خففا من حدة معارضتهما الانضمام إلى منظمة التحرير. وفعلاً، اتفقت الفصائل الفلسطينية، في القاهرة عام 2005، على إعادة تشكيل منظمة التحرير وتفعيلها وتطويرها على أسس جديدة، وأعادوا تأكيد ذلك في 2006، ثمَّ في 2007، و2009، و2011، و2013.. إلخ، بل واتفقوا على تشكيل إطار قيادي موحد للمنظمة، يضم الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، غير أن أيّاً من تلك الاتفاقات لم يتم يوماً وضعها موضع التنفيذ. وعلى الرغم من الاتفاقات المتكرّرة، أيضاً، على إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، المفتقد الشرعية، والذي لا يعرف عدد أعضائه وهوياتهم كذلك، فإن شيئاً من ذلك لم يقع. الأدهى أن المنظمة التي يملك فيها الرئيس حق العطاء والمنع في المخصصات المالية لفصائلها، بل وحق فصل من يريد من لجنتها التنفيذية، كما جرى مع أمين عام سر اللجنة السابق، ياسر عبد ربه، عام 2015، تحولت إلى إطار لترضية المتقاعدين الوطنيين عبر تكريمهم بمناصب فخرية فيها.
باختصار، لا يمثل "المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج" تحدياً لشرعية المنظمة، كما يزعم ناطقو حركة فتح والسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الملتحقون بها، بل إن من أجهض تلك الشرعية هي القيادة المتنفذة نفسها في حركة فتح، والتي تتعامل مع المنظمة بوصفها صنمَ عجوة يأكله صاحبه عندما يجوع. وبعيداً عن هذا المؤتمر، تحتاج المنظمة إلى استنقاذ من براثن التدمير الذي تمارسه هذه القيادة. وحتى ذلك الحين، فإن من حق الشعب الفلسطيني، في كل أماكن وجوده، أن يبحث عن إطارات تعبر عنه وعن قضيته، بعد أن ضاقت به رحابة بيت منظمته المختطفة. ليس هذا المؤتمر "روابط قرى" جديدة، بل هو من صيغ الثورة على "روابط هياكل" مهندسة إسرائيلياً، لا تقوم على مخاتير محليين هذه المرة، كما جرى في منتصف السبعينيات وإلى حدود منتصف الثمانينيات في الضفة الغربية، وإنما عبر من يقدّمون أنفسهم قادة للشعب الفلسطيني.