للكبار فقط

للكبار فقط

22 فبراير 2017
+ الخط -
انتشلت من ذاكرتي مشهداً اختزنته منذ سنوات، هو مشهد الزّحام أمام إحدى دور السينما في القاهرة، وكان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي، وكان السبب عرض فيلم عربي، وُضعت تحت بوستره عبارة "للكبار فقط"، ما يعني أن الدخول لمشاهدته سوف يكون من خلال البطاقة الشخصية، والتي تعني أن الشخص بالغ عاقل. اندسّ بين الجموع فتية مراهقون، وكل واحد يلوح ببطاقة هوية، ربما اختلسها من والده، أو استأجرها من زميل، أو استعارها من رفيق مقهى، ولم يكن الموظف عند شبّاك التذاكر مُهتمّاً بمطابقة الصورة الشخصية لحامل البطاقة مع الصورة المُلصقة في البطاقة نفسها، فكلّ ما يهمّه أن تنفد التذاكر، ما يعني نجاح الفيلم، واكتساحه موسم عرض الأفلام الجديدة.
تذكّرت هذا المشهد، حين لمست لهفة كثيرين من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، لمعرفة فحوى رواية "جريمة في رام الله"، والتي أصدر النائب العام الفلسطيني قراراً بمنعها بعد صدورها بستة أشهر!، وسألني كثيرون عن فحوى الرواية التي لم أكن قد قرأتها بعد، ولكن هناك من تطوّع بتوزيعها نسخة إلكترونية، فوصلت إلى بريدي، وبدأت في تصفّحها، لأكتشف أن الكاتب عبّاد يحيى أراد أن يكتب عن رام الله، لكنه كتب لنا عن العالم السُفلي، أو الوجه الآخر الذي لا نحب أن نراه في مدينةٍ جميلة لها تاريخها، والمصنّفة عاصمة فلسطين الثقافية، حتى إن أهلها يتندّرون دائماً بأن شباب رام الله يُقارعون جنود الاحتلال بالحجارة وزجاجات المولتوف، ثم ينفضون أيديهم حين يهرب الجنود، فيعودون إلى المقاهي، لتدخين الشيشة ولعب النرد، وملاحقة الفتيات الجميلات، فهذا المشهد لن تراه في مدينة فلسطينية أخرى.
أما المدينة التي كتب عنها عباد يحيى، فكان من الممكن أن يحوّلها إلى مدينة خالدة، تأخذ مكاناً في الكتب، أكبر من مكانها على الخريطة، فيهديها شهرةً عالمية، مثلما فعل ماركيز حين اخترع مدينة من خياله في رواية "مائة عام من العزلة"، ولذلك، قرّر أهل بلدة ماركيز، وتكريماً له، إطلاق الاسم المتخيّل على بلدتهم، ليصبح اسمها ماكوندو بدلا من أركاتاكا، ولم يطلقوا اسمه مثلاً على البلدة، وذلك تخليداً لمدينة شغفوا بها من خلال خيال الكاتب.
ولكن، وربما هو شعورٌ عظيم بالأسى قد وصل إلى الكاتب، فانتقى من رام الله "باراً"، وشقّةً، وممارسات جنسية شاذّة، واختار نهاية أحداث الرواية متنوعةً ما بين القتل "لاحظوا أن فتاة غزّية تُقتل في رام الله"، وبين السفر والانتحار، ما دفعني إلى أن أسأل نفسي، وأنا أقلّب الصفحات بواسطة "الماوس": هل هذه هي رام الله؟ أم أن الكاتب أراد أن يفرغ سخطه على الوضع السياسي الفلسطيني القائم حالياً، فاختار هذه النماذج البشرية المحصورة، فتناولها بشيء من العُمق الفجّ، الذي وصل إلى اكتشافهم المبكّر لشهواتهم ونزواتهم، وكيفيّة تعاملهم معها، واستهلك الوصف صفحاتٍ كثيرةً لا داعي لها، ليقنعنا بضرورة تنفيذ مخطط "نور" للسفر من رام الله، ليمارس مثليته الجنسية مع صديقه الفرنسي؟ وربما أراد الكاتب حين كتب روايته عن مدينة رام الله التي تخرّج من أكبر جامعات فلسطين فيها (جامعة بيرزيت)، فلأن أحدهم أو كثيرين قد تحدّثوا أمامه أن الكتابة عن المدن بهذه الطريقة هي أقصر الطرق إلى ترجمة الرواية وحصد الجوائز، فكانت هذه الرواية من باب "خالف تُعرف". وربما يطويها التاريخ أو ينصفها، كتاباً من حقّه أن يرى النور من دون اعتراف فعلي بمحتواه. والموقف يذكّرني بنفسي إبّان عدوان 2014 على غزة، حيث هوجمت وقتها بشدّة، لأنني تركت الحديث عن الألم والدماء والدموع والتصدّي للعدو ذات يوم، ضمن يومياتي التي كنت أُدوّنها ساعةً بساعة، من خلال حسابي على "فيسبوك"، وكتبت عن حاجة النساء في ملاجئ الإيواء للخصوصية، بما فيها توفير فوط الحماية الشهرية، وكذلك حمايتهن من تلصّص الفتية المراهقين على أبواب الحمامات العامة.. هذا واقع حياة بحلوه ومرّه، وعلينا ألا نهرب من واقعنا. وقد تجرح الحقيقة أحياناً.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.