قصتان وفاصلة عن اللجوء والغربة

قصتان وفاصلة عن اللجوء والغربة

21 فبراير 2017
+ الخط -
في مقرّ منتدى برونو كرايسكي للحوار الأممي في فيينا، الذي كان في الماضي المنزل الخاص للمستشار النمساوي الاشتراكي كرايسكي، التقى نحو مئة شخص من شتى دول العالم للتفكير والتشاور ومحاولة ابتداع سُبلٍ لاستيعاب اللاجئين والإبقاء على هوياتهم وثقافاتهم وحفظ كراماتهم في آن. وفي فيينا، وهي أجمل عواصم أوروبا، ثمّة عنوان واحد لا غير للحضور الفلسطيني الثقافي هو فيولا الراهب (من بيت لحم) ومروان عبادو (من فلسطينيي لبنان). ومن دون هذا الثنائي، ربما ما كان في إمكان مؤسسة كارل كاهان التي تُعنى بمساعدة الأشخاص الذين يواجهون أخطاراً أن تنظم مثل هذا المؤتمر المهم الذي برع الفنان النمساوي، أندريه هيلر، ومعه عضو مجلس إدارة منتدى برونو كرايسكي، هانيس سفوبودا، والكاتب روبرت ميسيك وباتريشيا كاهان وأندرياس بابلر (رئيس بلدية مدينة ترايسكيرخن المستقبِلة للاجئين) في إدارة جلساته وحلقاته النقاشية التي امتدت يومين (30 و31/1/2017) وكان عنوانها "أطفال تحت الرادار"، بينما كان عنوان المؤتمر نفسه في العام الماضي "استمع، اسأل، تعلّم، ثم أجب". وغاية هذا المؤتمر الذي عقد في مصنع للقطارات (للدلالة الرمزية التي تضفيها كلمة القطار) تسليط الأنظار على مأساة اللاجئين، والحدّ من المواقف السياسية المعادية لهم، وتقديم الخدمات الإنسانية والثقافية الملائمة، والتصدّي لليمين الأوروبي وأفكاره ومواقفه.

في القاعة التي تصدرتها كلمة Now المرسومة بسترات النجاة البحرية، قدم مروان عبادو لوحات موسيقية غنائية، وعرضت الفرقة المؤلفة من نحو أربعين عازفاً ضروباً من الرقص والغناء والعزف. واللافت أن ثلث أعضاء هذه الفرقة التي دأب مروان كالنملة على التفتيش عن مواهب فنية مبعثرة هنا وهناك، ليسوا نمساويين، والثلثين ليسوا نمساويين في الأصول، بل نمساويين من أصول مختلفة، وبعضهم دون السادسة. وقد قدمت الفرقة أغنية "أنا وحيدة" بالعربية والألمانية التي كتبها مروان لابنته الوحيدة، وهي تعكس حال فتيات وحيدات كثيرات في بلاد الغربة. وكانت مآقي الجموع تشع بفرح مفاجئ ونشوة عارمة مع كل عبارة.
سيدرا قويدر فتاة سورية (16 عاماً) شاهدتها تغني بثقةٍ راسخة في سنة 2016، وكانت وصلت للتو إلى النمسا. في هذه السنة، رقصت على إيقاعات "الهيب هوب"، وكأن سنة من اللجوء أنضجت هذه السمراء السورية التي جعلت من الجسد نمراً نافراً من المحال ترويضه، وحوّلته مثالاً للقوة والجمال والتوثب. وبعد أن قدّمت سيدرا رقصتها، بادرت فتاة سورية محجبة من فرقة مروان عبادو إلى التمنّي عليه أن تتعلم الرقص. وهذه هي قوة المثال الجميل. وسيدرا قويدر فتاة سورية كانت تعيش في دمشق مع والدتها ووالدها وشقيقها. وقد انفصل والدها عن أمها قبل سبع سنوات، لكنه فُقد في غمرة الجحيم السوري، والراجح أنه قُتل. وفي غمرة تلك الأهوال، غادرت سيدرا دمشق إلى حلب، ثم إلى مدينة الباب فتركيا. ومن تركيا ركبت "البَلَم" مع جموع اللاجئين، واجتازت المياه إلى اليونان، ثم عبرت الحدود إلى مقدونيا وصربيا. وهناك فقدت النقود القليلة التي كانت في حوزتها. ومع ذلك، قطعت المسافات الباردة إلى أن وصلت إلى النمسا لتعيش اليوم وحيدةَ، على أمل وحيد، هو أن تتمكن من لمِّ شمل والدتها وشقيقها.
أي ألم إنساني دفع بهذه الفتاة الجميلة والذكية جداً والمكافحة والمغامرة التي لم تكن تبلغ الخامسة عشرة إلى اجتياز الجبال والسهوب حتى تصل إلى أوروبا؟ أي فجيعةٍ عصفت بأمها، فارتضت أن تخوض ابنتها اليانعة في عذاباتٍ كثيرة؟ كم هي راعبة الحياة السورية، وكم هي عظيمة إرادة السوريين في قهر الموت اليومي. إنهم ينتشرون في جميع أنحاء أوروبا، وينشرون أينما حلّوا فناً وكتابة وطعاماً وحلوى. فالحياة والفن والمغامرة تليق بسيدرا قويدر وأمثالها.
... هانية ابراهيم نيجاد (16 سنة) فتاة من أصول أفغانية، ولدت في إيران التي عاش فيها والدها قرابة خمسين سنة، ولم يتمكّن من الحصول على الجنسية الإيرانية لأولاده. وجرّاء التضييق عليه، عاد إلى أفغانستان، مع عائلته التي رفضت بدورها الاعتراف بهذه العائلة كعائلة أفغانية. وهكذا لم تتمكّن هانية من التعلم، وعاشت كما لو أنها فاقدة إنسانيتها، فقرّرت الفرار من بلاد الرمال والموت والمخّدرات، فغادرت بلادها وحدها نحو أوروبا، وقطعت الدروب مع جموع المهاجرين اللاهثين الهاربين الباحثين عن ملاذ لأرواحهم المعذّبة. وفي النمسا، تمكّنت من الانخراط في التعليم، وراحت تتعلم العزف على العود في فرقة مروان عبادو، وتكسب بعض الدخل من إتقانها فن الأوشام، وهي تتجه إلى دراسة الرسم.
... فاصلة: لاجئة تغني أغاني الغجر الجميلة والحزينة معاً. تغني من غير أي آلة موسيقية.
اختارت لضبط إيقاعات أغانيها الضرب على صدرها، بلطفٍ أحياناً، وبقوة في أحيان أخرى. لم تكن الايقاعات لطماً على طريقة الطقوس الشيعية العراقية الفارسية الجذور، بل تعبيراً عن شجن وعذاب مقيمَين في صدرها. هذه الفتاة اللاجئة، التي صارت مواطنة، كادت أن تنفر الدموع من عيون الحاضرين الذين دهشوا للتعبير باليد، واستعاد بعضهم أغاني "البلوز" أو أغاني "السول" لدى السود المعذبين.
... لاجئون من أصقاع شتى وهويات مختلفة فرّوا من عذاباتٍ لا تحصى في بلدانهم الأصلية، ومن موتٍ محتم بأسلحة أبناء جلدتهم. ونمساويون غمرتهم الروح الإنسانية فجعلتهم يستميتون في الدفاع عن هؤلاء اللاجئين، ويتفانون في الاهتمام بهم، وإسباغ معنى الإنسانية على حضورهم في أوطانهم الجديدة، والإصرار على تنمية ثقافاتهم الأصلية وهوياتهم الموروثة، والمحافظة على كرامة هؤلاء في الوقت نفسه. تُرى، هل نجد ذلك في الدول العربية والإسلامية المستقبِلة للاجئين، كتركيا ولبنان والأردن ومصر؟