البنية الفوقية والحضارة

البنية الفوقية والحضارة

21 فبراير 2017
+ الخط -
"سُئلت عمن سيقود الجنس البشري؟ فأجبت: الذين يعرفون كيف يقرأون"، فولتير. ربمّا هذه المقولة للفيلسوف والمفكر الفرنسي أفضل ما نبدأ به في هذه الفسحة، خصوصا أن عملية القراءة أصبحت مقترنةً على حفنةٍ من المفكرين والمثقفين المنعزلين عن الفضاء العام الذي يحمل بدوره بذور التغيير المنشود.
علّمنا التاريخ، منذ آلاف السنين، أنّ الحضارات والأمم قامت وازدهرت على أكتاف بني الإنسان، وهنا لا أقصد بالإنسان ذلك الكائن الرابض على هامش الروتين، وإنّما الموجود في صلب الإنجاز والإبداع والتفكير، والمنشغل دائماً في عملية خلاصه وألمه ورقيّه وتقدمه.
ولا يُفهم من كلامي إنّني أؤمن بنظرية الأعراق التي تنص على أنّ ثمة أعراقاً في هذا الكون، تتفوّق في جيناتها الوراثية على أعراقٍ أخرى، وهي المناط بها حصراً عملية الإنجاز والإبداع الحضاري، أما الأعراق الأخرى فتعيش وتتمتع و"تستهلك" ما تمّ إنجازه من قبل "الأعراق المتفوقة". ولكنّني على العكس أؤمن بأنّ الله منح العقول لكلِّ عباده، على الرغم من أنّه لا بدَّ من الاعتراف بأنّ ثمّة عقول تتسم ببعض الصفات التي ترجح كفتها عن البقية، وتتميز في أمورٍ دون غيرها، وهو الأمر الذي أثبته العلم الحديث.
ومن نافلة القول، بعد الانتقال الجوهري الذي تمّ من الريف إلى المدينة، أنشئت تخصّصاتٍ جديدة لم يعرفها الريف من قبل، نظراً للمساحة الجغرافية الكبيرة للمدن، حيث تطلب الأمر توزيع الواجبات على السكان، لتستقيم الحياة، وليأخذ كلّ ذي حق حقه، وليأخذ كلّ فردٍ رزقه، فنشأت جماعات، مثل المزارعين والخبازين والخياطين..
لكن، ثمّة جماعات ارتبط اسمها مع الإنجاز الحضاري، لأنها مُذْ الأزل انشغلت بـ "السؤال"، وهو (أي السؤال) الذي تكوّنت حوله كلّ العلوم والمعارف، بل الإنجاز البشري برمته، لأنّه الحافز على التفكير والتجربة والإبداع. لذلك، اهتم القدماء بتلك الجماعات، وأغدقوا عليهم المال الكثير، ووفروا لهم كلّ ما يحتاجوه من أدوات، وبنوا لهم البيئة الصالحة، لكي يعملوا بها.
ويمكننا أن نوسم تلك الجماعات، بالـ "بنية الفوقية" وفقاً للمصطلح الحديث، وقبل الحديث عنها، يجب أن نعرج قليلاً على نظيرتها، وهي "البنية التحتية". وتعرف بأنها تلك المنظومة التي تضم الهياكل الفنية الداعمة لمجتمع المدينة، وتتكوّن من الطرق والجسور وموارد المياه والصرف الصحي والشبكات الكهربائية والاتصالات والمواصلات، وكلّ ما يوفر السلع والخدمات اللازمة للحياة اليومية لمجتمعٍ ما، وفي زمنٍ وعصرٍ ما. وهنا نطرح سؤالاً جوهريّاً: مَنْ ينتج البنية التحتية؟ ومَنْ ينشغل في عملية صناعتها وتطويرها؟، الجواب: إنها البنية الفوقية.
لذلك، نرى أنّ الدول المتقدمة تسخر كلّ إمكانياتها لتصنع بنيتها الفوقية الخاصة بها، بالطرق نفسها التي تصنع فيها بنيتها التحتية، بل إنّ عملية صناعة الفوقية أكثر عناءً من التحتية، لأنّها تحتاج إلى رعايةٍ واهتمامٍ خاص، وما المليارات التي تُصرف على القوى البشرية في العالم المتقدم، إلا مسعى منها لتجنّب الدخول في خندق "الاستهلاك" وبالتالي السيطرة على كلِّ الموارد المختلفة للدولة من قبل الآخرين.
عربيّاً، ولشديد الأسف تمّ إهمال البنية الفوقية المنتجة للحضارة، على الرغم من أنّ العقول المبدعة والفريدة متوّفرة على نطاقٍ واسع، ولكن تمّ تغيبها عن سلطة اتخاذ القرار، وشُنّت حملات كثيرة مضادة ضدّ الكفاءات، ما حملها على الرحيل حيث الدول التي تقدّرها وتغدق عليها ما تريد، ليس المال فقط، بل التقدير والمكانة التي تليق بها.
غياب البنية الفوقية الحقيقية في دولنا العربية، جعلنا نسيرُ خلف الجميع، شعوبٌ مستهلكة، تأكل مِمّا لا تزرع، وتلبس مِمّا لا تصنع، وتعيش مِمّا لا تنتج، وطالما الحال على ما هو عليه، فسنبقى شعوباً متخلفة، ونربض على هامش الإنجاز الحضاري.
في كتابه "سيكولوجيا الجماهير"، يقول الفرنسي غوستاف لوبون: "إن الجماهير دائماً بحاجة إلى قائد، لكي يقودها إلى ما يريد". فآن الآوان أن تقود الكفاءات الشعوب العربية، بدلاً من أن يقودها الحُثالَة، صانعي "التاريخ" البشري المشؤوم.
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
بشير الكبيسي (العراق)
بشير الكبيسي (العراق)