حقائق صراع سياسي في الأردن مع القصر من 1953إلى1957

حقائق صراع سياسي في الأردن مع القصر من 1953إلى1957

03 فبراير 2017

كتاب عن الأردن.. القصر وحكومة النابلسي والضباط الأحرار

+ الخط -
شكّل كتاب ماهر عثمان "الأردن في الوثائق السرية البريطانية 1953-1957، السنوات الخمس الأولى من عهد الملك حسين" مفاجأة سارة لي، وربما لكثيرين من المؤرخين والمهتمين بمتابعة تلك الحقبة المفصلية في تاريخ الأردن المعاصر، فقد جاء ليسد فراغاً كبيراً، كان يفترض أن ينشغل بسدّه المؤرخون الأردنيون، حول أحداث تلك السنوات، خصوصاً مع مرور الذكرى الستين لعديدٍ منها، مثل تعريب الجيش الأردني، وطرد الجنرال غلوب باشا (1/3/1956)، انتخابات 21/10/1956، وتشكيل أول حكومة برلمانية وائتلافية في الأردن، وهي التطورات التي لم تلبث أن انتكست وأحدثت شرخاً عميقاً في الحياة السياسية الأردنية، بين النظام السياسي وقوى المعارضة.
فمن المعروف أنه قدمت لتلك الأحداث قراءات متباعدة وحتى متناقضة، ولا سيما تلك التي رافقت صعود حكومة سليمان النابلسي البرلمانية الائتلافية (29/10/1956)، ثم استقالتها المدوية (10/4/1957)، وما تبع ذلك من تداعيات متسارعة: فرض الأحكام العرفية وحل الأحزاب السياسية وملاحقة قادتها ونوابها وممثليها في النقابات العمالية والمهنية؛ الحديث عن مؤامرة عسكرية واعتقال "الضباط الأحرار" وتقديمهم للمحاكمة، إقالة نواب أحزاب المعارضة، واستبدالهم بنوابٍ آخرين عن طريق انتخابات فرعية، ما غيّر تركيبة مجلس النواب جذرياً.
والمعروف أن إقالة حكومة النابلسي، والأحداث المارة التي تلتها، شكلت نقطة انعطاف جذريةٍ في تاريخ الأردن المعاصر، افتقدت بعدها الحياة الأردنية للتعدّدية السياسية والحزبية، إذ لم تستعد الأحزاب شرعيتها إلا بعد ثلاثة عقود ونصف العقد، مع صدور قانون الأحزاب السياسية رقم 32 في 1/9/1992. كما ضعفت سلطة البرلمان، وباتت شكليةً حتى مطلع السبعينيات، لتغيب كلياً عام 1974، مع حل البرلمان مدة تقارب عشر سنوات، قبل أن يعود بين عامي 1983 و1988، ثم ليحل ثانية قبل أشهر قليلة من انتفاضة إبريل/ نيسان 1989.
وهكذا، فإن كتاب ماهر عثمان، المعتمد على الوثائق السرية البريطانية للسنوات 1953ـ 1957، يغطي سلسلة من الأحداث المفصلية التي عرفها الأردن حينذاك، ولا سيما إفشال عملية ضم الأردن إلى حلف بغداد، وتزوير الانتخابات النيابية (أكتوبر/ تشرين الأول 1954)، وهي أحداث كان الشارع السياسي المحلي سيد الموقف واللاعب الرئيسي فيها، هذا إضافة إلى معركة تعريب الجيش الأردني، وطرد الجنرال جون بيجوت غلوب، وصعود المد القومي الذي لم يلبث أن أفضى إلى فوز أحزاب المعارضة القومية واليسارية بنحو نصف عدد مقاعد مجلس النواب، ما سمح بقيام أول حكومة برلمانية وائتلافية في الأردن، برئاسة سليمان النابلسي، زعيم الحزب الوطني الاشتراكي.
في أواسط ثمانينيات القرن المنصرم، كنت أتتبع بشغف الحلقات التي كان يعدها ماهر عثمان
لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية، وما زلت أحتفظ بقصاصاتٍ تضم نصوصها، بهدف اللجوء إليها، كأحد مصادر كتابي عن حكومة النابلسي، وهو كتاب بدأت في إعداده حينها، وأنا في المنفى الدمشقي، ولم أفلح في إنهائه، حتى بعد عودتي إلى الأردن، وكنت أتساءل حينها، لماذا لم يجمع ماهر عثمان تلك الحلقات الغنية بالوثائق البريطانية بين دفتي كتاب، إلى أن فاجأني زميل الدراسة في الجامعة الأردنية، الناشر ماهر الكيالي، في أثناء زيارتي معرض الكتاب في عمان قبل نهاية 2016 بقوله: لدي كتاب يهمك أكثر من أي كتبنا الأخرى، وناولني نسخة من كتاب ماهر عثمان.
وإذا جاز لي أن أعلق على هذا الكتاب الذي أمضيت نحو الشهر، مستمتعاً بقراءة صفحاته التي تنوف على الخمسمائة صفحة، فهو كتاب يتجاوز توقعاتي، وربما توقعات غيري من أصحاب الاهتمام من معدّه ومحرّره. فهذا الكتاب الذي تم تبويبه في 23 فصلاً، بالإضافة إلى المقدمة والهوامش، لم يعتمد فقط على المقالات التي كان قد أعدها الكاتب قبل أكثر من ثلاثين عاماً، والتي ضمت وثائق كانت الحكومة البريطانية قد أفرجت عنها في حينها، وإنما عاد إلى الأرشيف البريطاني، ليكشف عن وثائق قديمة لم تكن الحكومة البريطانية قد أفرجت عنها في الثمانينيات، ومَرّ عليها، عشية إعداد الكتاب، خمسون عاماً. وهكذا، فقد أضاف ما يعادل ثلثي حجم الكتاب من الوثائق إلى ما كان نشره سابقاً في "الشرق الأوسط". وعليه، فإن الكتاب احتوى حصيلة استثنائية من الوثائق التي استغرق عمل ماهر عثمان عليها نحو ثمانية شهور متواصلة. وهناك التحرير "الأنيق" لماهر عثمان لمادة الكتاب، وصبره في تبنيط المقتبسات وتمييزها عن التعليقات والشروح التي وضعها بنفسه، سواء لشرح سياق النصوص المترجمة، أو لربطها بنصوص وثائق أخرى. وبذلك، يحتار المرء فيم يصف جهد ماهر عثمان، أهو يدخل في باب الإعداد، أم في باب التأليف والتحرير (الذي يشمل الاختصار والانتقاء) أم هو مزيج من هذا كله.
عمد ماهر عثمان إلى مساعدة القارئ على كيفية قراءة كتابه، ووصف له أسلوب عمله على الوثائق، أين اقتبس وأين اختصر وأين استفاض. وفوق هذا كله، ضمت هوامش الكتاب (28 صفحة من النصوص بحرف صغير) السير الذاتية للأعلام التي ورد ذكرهم في الوثائق، وعددهم كبير، فضلاً عن توثيق المصادر، أو توضيح المعلومات التي ترد بشكل عابر في ثنايا الوثائق. هذا إلى جانب إيراده مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية والوثائق المصورة.
وبشأن محتويات الكتاب، بدأت فصوله بتتويج الملك حسين في ظروف إقليمية استثنائية، أبرزها تكرار الاعتداءات الإسرائيلية على القرى الأمامية من الضفة الغربية، لتمر الفصول تباعاً على مساعي الأردن لتعديل معاهدته مع بريطانيا ومواجهة الضغوط الرامية إلى ضمه إلى حلف بغداد، وتتوقف فصول الكتاب أمام جهود الملك حسين، لتعزيز مكانته وتكريس شرعيته ملكاً شاباً وموازنة الضغوط المتأتية عن صعود الناصرية والدعوات الرامية إلى الانضمام إلى "ركب التحرير العربي"، وما بين محاولات لندن وبغداد وأنقرة، جرّ الأردن إلى حلف بغداد، فضلاً عن مساعي قائد الجيش، غلوب باشا، المستميتة لفرض رؤيته للمصالح البريطانية على الأردن.
وهكذا تمرّ فصول الكتاب على الحكومات التي تعاقبت على الأردن في أواسط الخمسينات،
وكلها حكومات قصيرة العمر، وصولاً إلى تعريب الجيش وطرد غلوب باشا، ومن ثم الصعود المتواصل للمد القومي والتحرير، والذي كان يغذّيه الإعلام المصري وحزب البعث وبقية التيارات القومية واليسارية.
ولعل أكثر فصول الكتاب إثارة هي التي تناولت آثار تراجع نفوذ بريطانيا في الأردن والعالم العربي، تحت تأثير "نمو القومية العربية"، وتشكيل حكومة النابلسي، ثم حلول النفوذ الأميركي محل النفوذ البريطاني. هذا، وتشكل الفصول الأربعة الأخيرة: "الملك يطلب استقالة النابلسي"، "الملك حسين يحسم الموقف"؛ "اشتداد الدعاية ومخاوف من اغتيالات"؛ وأخيراً "من حكومة النابلسي إلى الأحكام العرفية"، أقول إن هذه الفصول تشكل ذروة الرواية الدرامية للصراعات التي شهدها الأردن خلال النصف الأول من 1957، والتي قرّرت مصائر الأردن إلى عدة عقود لاحقة، بل وإلى اليوم!
وبقدر ما يظهر كتاب ماهر عثمان المزايا والغرائز القيادية للملك الأردني الراحل، الحسين بن طلال، سواء في إدارته عملية تعريب الجيش الأردني وعزل غلوب باشا وترحيله، أو في إدارته الصراع الداخلي، سواء مع حكومة النابلسي أو مع حركة "الضباط الأحرار"، حفاظاً على عرشه أولاً، وإدراكاً منه أهمية الحفاظ على تحالف المملكة الأردنية القوي مع الغرب، في مرحلة الحرب الباردة، إلا أن الكتاب يكشف أيضاً، ومن خلال الوثائق البريطانية، عدم توفر أدلة قاطعة على وجود نياتٍ انقلابية على العرش، من الضباط الأحرار، حيث لم تكشف المحاكمات العسكرية لهم عن أية براهين ملموسة في هذا المجال (انظر تقرير السفير البريطاني الذي يصف فيه أحداث ما بعد إقالة حكومة النابلسي، وما سميت المؤامرة العسكرية، 14/5/1957. ص 463-467).
يصف السفير البريطاني "المؤامرة العسكرية" بقوله: "القصة برمتها هي بصورة أساسية مشوشة. لم تكن هناك مؤامرة ومؤامرة مضادة من جانب فريقين متماسكين تقود كل منهما عقول مدبرة. لقد كانت على العكس من ذلك، مسألة مشوشة ثلاثية الأضلاع، كلعبة استغماية، يصطدم فيها ثلاثة متنافسين بعضهم ببعض في الظلام، ولا أحد يعرف بوضوح ما الذي يحدث، أو ماذا يجب أن يفعل بعد ذلك" (ص 466).
كما أن الوثائق البريطانية تظهر أن سليمان النابلسي كان مرناً في موقفه من مسألة المساعدات
الأميركية للأردن، بعكس المتشدّدين من أعضاء حكومته، وأن التوصل إلى حلول وسط بين الحكومة النابلسية والملك كان ممكناً، لولا مناخات الحرب الباردة، وتشجيع كل من القوى المحلية والعربية المحافظة والولايات المتحدة للملك حسين على حسم الصراع مع الحكومة والأحزاب الوطنية بالقوة.
وأخيراً، لا بد من التأكد على الميزة الكبرى لكتاب ماهر عثمان، فهو، وبالاعتماد على وثائق بريطانية سرية غير مفصح عنها من قبل، يلقي أضواءً جديدة على أحداث فاصلة في تاريخ الأردن المعاصر، ولا سيما أحداث إبريل/ نيسان 1957 التي حدّدت المسار اللاحق للدولة الأردنية، ما يفتح الباب أمام قراءة جديدة لتلك الأحداث، بعيداً عن الانحيازات المسبقة والميول الأيديولوجية والسياسية لطرفي النزاع. وقد يكون مفتاح إعادة القراءة الجديدة تحليل السفير البريطاني في عمان حينذاك، والمشار إليه في الفقرة السابقة: إنه لم تكن هناك مؤامرة ولا مؤامرة مضادة، وإنما فرقاء كانوا يتخبطون في ظلام سوء الظن والأخطاء المتبادلة. وربما ما كان هذا ليحدث، لولا مناخات الحرب الباردة والاستقطابات المدمرة ما بين العروش والأنظمة العسكرية الصاعدة في المنطقة.
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
هاني حوراني

باحث وناشط سياسي أردني باحث، مؤسس مركز الأردن الجديد للدراسات منذ 1990. له مؤلفات في الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والتنمية الديمقراطية. يجمع، أخيراً، بين النشاط السياسي والممارسة الثقافية والفنية.

هاني حوراني