المصريون فقراء.. مسؤولية النخبة العسكرية

المصريون فقراء.. مسؤولية النخبة العسكرية

16 فبراير 2017

فقير ينام في شارع في القاهرة (3/2/2017/Getty)

+ الخط -
تتعامل المؤسّسة العسكرية المصرية مع مطالبات الفقراء بالعيش والدواء والعمل والتعليم على أنها "ترفيهات" ينبغي تجاوزها لعبور الأزمة الاقتصادية التي أعقبت تعويم الجنيه وارتفاع نسب التضخم والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة. وحيث يحلو للسلطة القائمة إلقاء اللوم على ثورة 25 يناير أنها وراء انهيار الاقتصاد وتردّي العائدات بالنقد الأجنبي، فالحقيقة أن عائدات السياحة ورسوم قناة السويس (أكبر مصدرين للدخل الأجنبي لمصر) لم تتراجع عقب 2011 بالشكل المزعوم، بل إن أسباب الأزمة الاقتصادية الحالية هي حزمة من التوجهات والسياسات التي تنتهجها النخبة العسكرية، لتوطيد سيطرتها ومحو المعارضة وضم القوى المنافسة تحت لوائها. ويأتي ضمن هذا:

الإنفاق على المعركة السياسية
يتضح، بمقارنة مخصصات وزارتي الداخلية والدفاع ومصلحة السجون في الموازنة العامة في السنوات الثلاث الماضية 2013/2014- 2015/2016 ارتفاع مخصصات خدمات الشرطة بنحو 10.8 مليارات جنيه (+50%)، ومضاعفة مخصصات وزارة الداخلية من 4.97 مليارات إلى 9 مليارات جنيه (+100)، وارتفاع مخصصات الأمن والشرطة (بند آخر) من 17.8 مليارا إلى 24.4 مليار جنيه (+30%)، وارتفاع مخصصات قطاع الدفاع والأمن القومي من 30.9 مليارا إلى 47.1 مليارا (+50%) وكذلك مخصصات مصلحة السجون (+50%)، وهو أمر مبرّر، خصوصا مع وصول عدد المعتقلين السياسيين إلى 60 ألفًا، بحسب تقرير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، وبناء 19 سجنًا جديدًا لاستيعاب الأعداد التي ترغب السلطات في حبسها. وبهذا، يبلغ حجم الإنفاق على معركة السلطات مع جماعة الإخوان المسلمين قرابة 38 مليار جنيه، تعادل نحو 2.5 مليار دولار أميركي (باحتساب متوسط سعر الدولار في هذه الفترة)، تكبّدتها البلاد، واقتطعت من دخول الجماهير الفقيرة.

الإرهاب وانهيار السياحة في سيناء
كانت إيرادات قطاع السياحة، وقت صعود النخبة العسكرية إلى سدة الحكم، قد وصلت إلى
5.9 مليارات دولار عام 2013/2014، وارتفعت بنحو 15% في العام التالي، لتصل إلى 7.4 مليارات دولار، ثم انخفضت بنسبة 44.3% عام 2016 لتصل إلى 2.8 مليار دولار فقط، وهو العام الذي تلا أحداث الهجوم على وفد السياح المكسيكيين في الواحات في سبتمبر/ أيلول 2015، وتورّطت فيه قوات الأمن ضمن عملياتها المشتركة مع القوات المسلحة، لملاحقة عناصر الإخوان المسلمين في مدينة الواحات. كما يُعزى الانهيار إلى حادث سقوط طائرة الركاب الروسية في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، والذي أعقبه تحذير البلدان الأوروبية رعاياها من القدوم إلى مصر، ووقف خطوط الطيران بين مصر وستة من بلدان العالم الرئيسية. يضاف إلى هذا، حادث تعذيب الطالب الإيطالي جوليو ريجيني ومقتله، وتنامي أثر خطاب المؤامرات الخارجية على تعامل الشارع المصري مع الأجانب، بحيث صارت مصر بين الدول المصنفة "خطرًا"، ليس فقط على السياح، وإنما على البعثات العلمية والفنية كذلك.
وتضاف تلك الخسائر على فاتورة انشغال النخبة العسكرية بمعاركها السياسية في العاصمة، وسعيها إلى توسيع النفوذ والتحكم في الاقتصاد المدني، بينما جبهة سيناء والحدود ملعب حر لعناصر الدولة الإسلامية (داعش) نُفذت فيه 88% من العمليات الإرهابية في مصر بين 2014-2016، وارتفعت عام 2015 وتيرة العمليات بنسبة 70% (617 عملية مقارنة بـ 359 عام 2014)، بحسب تقرير نشره مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ما انعكس مباشرة على العائدات وانخفاض نسبة الإشغال في الفنادق والمنتجعات السياحية إلى 1%.

المشروعات الكبرى الفاشلة
استقبلت مصر، عقب صعود النخبة العسكرية إلى الحكم، مساعدات تقدّر بنحو 38 مليار دولار قدمتها السعودية والإمارات والكويت مساعدات نقدية ومنحاً تنموية لترسيخ سلطة النظام الجديد. وعلى الرغم من تردّي أوضاع الاقتصاد وازدياد عجز الموازنة الحكومية، وجهت القيادة تلك الأموال نحو مشروعات اقتصادية، حذّر الخبراء من عدم جدواها، وتأخرها إلى ذيل أولويات الاقتصادين، المصري والدولي. أبرز هذه المشروعات توسعة قناة السويس الذي تكلف 8 مليارات دولار، وسط وعود رسمية بارتفاع إيراداتها إلى 100 مليار دولار سنويًا، فكانت النتيجة هي انخفاض عائداتها بنسبة 3.2% (من 5.175 مليارات دولار عام 2014 إلى 5.005 عام 2015)، وتكلف حفل الافتتاح وحده أكثر من 230 مليون جنيه. ثم تأتي صفقات التسليح التي أبرمتها الحكومة بقيمة 12 مليار دولار لشراء معدات حربية لا تحتاجها البلاد، ولا يتوقع استعمالها في أيه معارك على المدى القريب. كذلك، التعاقد مع روسيا على صفقة لتمويل إنشاء محطة طاقة نووية بقيمة 25 مليار دولار، وتخصيص 300 مليار دولار للعاصمة الجديدة، التي يزمع إنشاؤها، لولا لطف من الله أن لم تجد الحكومة تمويلاً كافيًا لهذه أيضًا. وأخيرا، وليس آخرًا، مشروع استصلاح المليون والنصف مليون فدان الذي تمضي فيه الحكومة، على الرغم من تحذيرات نقلت عن وزير الزراعة السابق، عادل البلتاجي، من عدم كفاية المياه لتنفيذه.
ويبقى أن 20 مليار دولار أنفقت في مشروعات من هذا النوع، وكانت تكفي لسداد عجز الموازنة الحكومية، أو سداد جزء كبير من الدين الخارجي الذي وصل إلى 46 مليار دولار، أو تخفيف بند خدمة الديون الذي وصل، أصولاً وفوائد، إلى حوالي 43.7% من إجمالي الإنفاق المالي العام لسنة 2015/2016، خلافًا للدين المحلي الذي فاق 2 تريلليون جنيه مصري. وبالنظر خلف ما يبدو "عبثية" السياسات، يظهر أن النخبة العسكرية قدمت أولوياتها الخاصة من ضم قوى رجال الأعمال المختلفة تحت قبضتها، وتكوين نخبتها الرأسمالية و"شراء" التعاون والاعتراف الدوليين، قدمت كل هذا على أولوية إنقاذ الاقتصاد والعملة المحليين.

قرارات غير عادلة
مع بدء السياسات التي اشترطها صندوق النقد الدولي للموافقة على إقراض مصر 12 مليار
دولار، توجه معظمها إلى خدمة الديون الخارجية التي تتحمل الحكومة وحدها مسؤولية التورّط فيها، انخفضت قيمة الجنيه المصري بـنسبة 75%، وارتفعت معدلات التضخم من نحو 6.9 عام 2013 إلى 24% (+400%) ، وتضاعفت أسعار السلع الأساسية عدة مرات. وفي المقابل، قامت الحكومة بخفض نسبة الأجور من الناتج المحلي بـ 8.5% وخفض الدعم عن الطاقة بـ 50% ومضاعفة تسعيرة الكهرباء على جميع الفئات.
وبينما ترمي الدولة المواطن الفقير ليواجه أزمات الاقتصاد المحلي، فإنها لا تنسى "أصحاب المقام الرفيع"، فاهتمت بزيادة مرتبات القضاة بحوالي 5-7 آلاف جنيه، وكانت بعد آخر زيادة تتراوح بين 17-45 ألف جنيه، وزيادة معاشات المتقاعدين من الجيش للمرة الثامنة بنسبة بلغت في الأخيرة 250%، وأزاحت الحد الأقصى للأجور، ورفعت من قبل هذا مخصصات مجلس النواب بنسبة 200% لتصل إلى 997 مليون جنيه عام 2015/2016، بعدما كانت 382 مليونا عام 2013/2014، وأنفقت أخيرا 40 مليون جنيه، قيمة سيارات فارهة لرئيس المجلس ووكيليه، وتكلف موكب الرئيس حوالي 6 ملايين و600 ألف جنيه ثمن 22 دراجة بخارية فقط، بحسب بعض التقديرات. هذا كله، في الوقت الذي يدعو فيه المسؤولون الفقراء إلى التقشف، ويطلب رئيس الجمهورية جمع "الفكّة" من المواطنين، ويصرح وزير التموين بأن من يتجاوز راتبه 1500 أو معاشه 1200 جنيه لا يستحق بطاقة تموينية. وللعجب، تختفي 32.5 مليار جنيه (حوالي 1.77 مليار دولار) من إيرادات الموازنة العامة 2014/2015 (!).

مزيد من الفساد
احتلت مصر في عام 2016 المركز 88 في مؤشر مكافحة الفساد العالمي، وكان هذا عقب صدور قرار رئيس الجمهورية 89 /2015 الذي يسمح للرئيس بعزل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، والذي يعد الجهة الوحيدة المستقلة التي تراقب الحكومة والجهات التنفيذية، وصدور قانون الضريبة العامة على الدخل (17/2015)، والذي أوجد بيئة خصبة لانتشار الفساد في تخصيص الأراضي وبيعها، ووقف تطبيق قانون المناقصات والمزايدات على الهيئات العامة والخدمية والاقتصادية. وبحسب تقديرات الجهاز المركزي للمحاسبات، تزيد تكلفة الفساد عن مئتي مليار جنيه سنويًا، وهو مبلغ يكفي سداد 82% من العجز النقدي بالموازنة، بحسب تقرير حديث نشره المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وغني عن الذكر أن النخبة العسكرية هي المسؤول الأول عن مكافحة الفساد، وعن حل أزمات الاقتصاد بالأموال المتوفرة، بدل أن يدفع المواطن الفقير فاتورة عجز الموازنة الذي تقترض الحكومة لسداده، فيتحمّل الديون وفوائدها، ويدفع ثمن فرص الاستثمار الضائعة، بسبب الفساد المالي والإداري. ولكن، أنّى للعسكريين هذا، ومؤشر الفساد في القطاعات الدفاعية الصادر عن مؤسسة الشفافية العالمية يضع مصر في التصنيف الأكثر قابليةً للفساد في قطاع الدفاع والأمن القومي، بسبب ضعف نظم الإشراف والمراقبة أو غيابها تماماً. ويبقى واجبًا، في التحليل الأخير، أن نذكر أن أزمات الفقر المدقع كانت، ولا تزال، يمكن حلها بإعادة توزيع الموارد الوطنية لصالح الفئات الفقيرة، بحسب دراسة مهمة أجراها آندي سامنر على دول نامية، ونشرها مركز التنمية العالمية بعنوان "الغاز، السلاح والهبات".

توسع النشاطات الاقتصادية للمؤسسة العسكرية
المصريون فقراء، ليس فقط بسبب المعارك السياسية وانتشار الإرهاب والتوجهات الاقتصادية
الخاطئة ومحاباة الأثرياء والحكومات الفاسدة، بل أيضًا لأن المؤسسة العسكرية، ممثلة في جهاز مشروعات الخدمة الوطنية والهيئة العربية للتصنيع وغيرها، إضافة إلى الشركات العسكرية التي أنشئت أخيراً، بموجب قرار رئاسي يسمح للعسكريين بإنشاء شركات خاصة برأس مال محلي أو أجنبي، تستحوذ على قطاعات كبرى من الاقتصاد المحلي، بدءًا من الزراعة والإنتاج الحيواني والمنتجات الغذائية بأنواعها كافة، وحتى الصناعات الكيماوية والتعدين والبتروكيماويات والمقاولات والصناعات الإلكترونية والاستيراد والتصدير. وأخيراً، الأدوية وأجهزة التكييف وألبان الأطفال والحديد والإسمنت، والقائمة تطول.
وتتراوح تقديرات الخبراء لنسبة الاقتصاد العسكري بين 50-60% من الاقتصاد المصري، وتهيمن النخبة العسكرية على 94% من الأراضي المملوكة للدولة، بحسب تقرير لـ "ميدل إيست آي"، وأسفرت السنوات الثلاث الماضية عن تغوّل الشركات العسكرية في مختلف مجالات الاقتصاد المدني، بما تسبب في"وقف حال" قطاعات بأكلمها.
المصريون فقراء، لأن عائدات تلك الهيئات والأجهزة العامة، والتي قدرت بـ 198 مليون دولار عام 2012، ولم تنشر الجهات العسكرية تحديثًا عليه فيما بعد، لا تدخل في موزانة الدولة، ولأن أرباح الشركات العسكرية لا تخضع للضرائب، ولأن الاقتصاد العسكري، بمجمله، يفرض منافسةً غير نزيهة على القطاع الخاص، وذلك لأسباب عديدة، أهمها الإعفاء الكامل من الضرائب والجمارك ومصروفات الطاقة، والحصول على الأراضي المملوكة للدولة من دون تسديد تكاليفها في الخزانة العامة، واحتكار حق استغلال الطرق في عموم البلاد 99 عامًا، واستغلال العمالة من المجندين إلزاميًا لدى الجيش، والقدرة على تأمين الشركات والاستثمارات، بما يجذب الشركاء الأجانب، والحصانات القضائية ضد التحقيق في الكسب غير المشروع.
المصريون فقراء، لأن الخوف من منافسة مؤسسة اقتصادية كبيرة غير مساءلة (تقترب تكلفة الإنتاج فيها من الصفر) دفع الاستثمارات الخاصة للانسحاب من السوق، وأدى إلى إغلاق المصانع (4600 مصنع في 74 منطقة صناعية منذ 2014) خصوصا بعد خفض دعم الوقود، واختفاء فرص الاستثمار (من غير شراكات/ وساطات الجهات العسكرية)، ما أوقف الإنتاج في قطاعاتٍ عديدة وخفض المعروض من الوظائف، وتسريح العمالة وزج الملايين من الطبقة المتوسطة والدنيا إلى أسفل قيعان الفقر.
المصريون فقراء، لأن المؤسسة العسكرية ضخت 20 مليار دولار في مشاريع للبنى التحتية استحوذت عليها الشركات التابعة للجيش، ثم ادّعت الفقر، وهي ترفع الدعم عن السلع الغذائية وتقترض لسداد ديونها. فالحاصل أن المصريين فقراء، لأنهم يعولون مئات الألوف من العسكريين الذين تتجاوز دخولهم مليارات الجنيهات، وتمثل منشآتهم وشركاتهم "جيبًا" كبيرًا يستنزف موارد البلاد، من دون رقيب أو حسيب.
سناء االبنا
سناء االبنا
سناء البنا
كاتبة وباحثة مصرية في الاجتماع السياسي
سناء البنا