عولمة الجدران وعقلية الانعزال.. بين الأمن والعنصرية والكراهية

عولمة الجدران وعقلية الانعزال.. بين الأمن والعنصرية والكراهية

14 فبراير 2017

مقطع من الجدار العنصري الإسرائيلي في فلسطين (فرانس برس)

+ الخط -
كان انهيار جدار برلين الذي بُدئ في تحطيمه، والعبور منه بالقوة، في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، مدويّاً في حيثياته ومعناه ونتائجه، وهو الذي فصل، ثلاثة عقود تقريباً، برلين في ألمانيا الشرقية، حليفة الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية (حلف وارسو)، عن برلين في ألمانيا الغربية، حليفة دول حلف شمال الأطلسي (الناتو). وقد انهار الجدار نتيجة مباشرة لتطبيق "البيروسترويكا" التي دعا إليها الرئيس الروسي، ميخائيل غورباتشوف، ودلالة على تفكّك دول الاتحاد السوفييتي لاحقاً، واستقلالها واحدة تلو الأخرى، بل وانضمام بعضها إلى التحالفات الغربية. كما كان تحطيمه رمزاً لانتهاء عقود من الفصل القسري والعنصري بين الألمان الشرقيين والغربيين من جهة والأيديولوجية الفكرية المتعصبة المهيمنة على حريات البشر من جهة أخرى.
لم يطل الأمر بعد انهيار جدار برلين، حتى ظهرت بعض نتائجه "غير المباشرة". كانت الأولى بانهيار نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) في جنوب أفريقيا في العام عام 1990، عندما ترأس فردريك دو كليرك الحكومة البيضاء، وفاجأ العالم بإعلانه عن فشل سياسة الأبارتهايد، وإلغائه جميع قوانين الفصل العنصرية في البلاد. وفي 1994، كانت جنوب أفريقيا تنتخب نلسون مانديلا، أول رئيس أفريقي لها، في انتخابات حرة نزيهة، شارك فيها لأول مرة جميع مواطني البلاد من مختلف الأعراق. واعتُبرت نهاية نظام جنوب أفريقيا (العنصري) آنذاك نهاية آخر نظام فصل عنصري في العالم.

الجدار الإسرائيلي
بعد عشر سنوات من انهيار جدار برلين، وست سنوات من سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كان جدار فصل عنصري آخر يُبنى، عندما كشفَتْ إسرائيل عن أقبح وجهٍ من وجوه الفصل العنصري. ففي أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000، قرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود باراك، وضع خطة لإنشاء جدارٍ في القسمين، الشمالي والأوسط من الضفة الغربية. وفي يونيو/ حزيران 2001، شكّل رئيس الوزراء الإسرائيلي، أرييل شارون، لجنة توجيهية برئاسة مدير مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، عوزي دايان، لتطوير خطة أكثر شمولية، فجاءت التوصية ببناء جدار يمنع الفلسطينيين من العبور إلى فلسطين الـ48 (داخل الخط الأخضر) بالمركبات أو مشياً.

وكان الغرض من بناء الجدار عزل الفلسطينيين عن الإسرائيليين، لأن الفلسطينيين يطالبون بحقوقهم في رفع الاحتلال عن أرضهم، ويدافعون عنها ضدّ المحتّل وجيشه بما توفر بين أيديهم من سلاح بسيط، في عمليات عسكرية. وبالتالي، برّرت حكومة شارون بناء الجدار بدعوى منع تسلل منفذي العمليات الفدائية إلى داخل الكيان الإسرائيلي. ومع بناء الجدار، بدأت حكاياتٌ لا يمكن تصديقها، وقصص أقرب منها إلى الخيال، عن أُناسٍ فصل الجدار بينهم وبين أرزاقهم وتعليمهم وأحلامهم. بين الأب وابنه والمزارع وأرضه والعاشق وحبيبته، والطفل ومدرسته...!
في التاسع والعشرين من مارس/ آذار عام 2002، بدأ التمهيد لبناء الجدار، حيث اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي كامل المدن والقرى الفلسطينية، في عملية عسكرية كبيرة سُمّيت الدرع الواقي أو (السور الواقي)، اجتاحت فيها مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، وقطاع غزة، وحاصرت المقاطعة التي كان الرئيس ياسر عرفات يقيم فيها. وكانت عملية السور الواقي المقدمة لبناء الجدار. ففي إبريل/ نيسان من العام نفسه، اتخذت الحكومةُ الإسرائيلية برئاسة شارون القرار ببدء بناء الجدار العازل، ليتكون من عدة جُدُر سياجية وإسمنتية في ثلاث مناطق من الضفة الغربية، وعمل جيش الاحتلال الإسرائيلي على مصادرة الأراضي الفلسطينية وتجريفها بالقوة لتحقيق هذه الغاية.
وفي يونيو/ حزيران 2002، بدأت "إدارة منطقة الفصل" التي شكّلتها الحكومة ببناء المرحلة الأولى من الجدار، اعتماداً على الخطة الحكومية. وفي أغسطس/ آب 2002، قرّرت الحكومة الإسرائيلية مسار هذه المرحلة، ثم الخطة الكاملة، وما تبعها من تعديلاتٍ، في السنوات اللاحقة، على مساره وزيادة في طوله. وانتهى العمل ببنائه في 2009، وبلغ طوله حوالي 730 كلم، يشمل الضفة الغربية والقدس، ويمتد من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها. وبحسب عدة مصادر، فإنه يتكون من أسلاك لولبية شائكة، وخندق بعرض أربعة أمتار وعمق خمسة أمتار يأتي مباشرة عقب الأسلاك، وشارع مسفلت بعرض 12 مترا، لعمليات المراقبة والاستطلاع، شارع مغطى بالتراب والرمل الناعم بعرض 4 متر لكشف آثار المتسللين، ثم الجدار، وهو جدار أسمنتي يعلوه سياج معدني إلكتروني بارتفاع أكثر من ثلاثة أمتار، وفي بعض المناطق يصل ارتفاعه الى 8 -9 أمتار، وقد تم تثبيت أجهزة إنذار إلكترونية وكاميرات وأضواء كاشفة، عليه. وتم تثبيت رشاشات ذات مناظير، هي كاميرات تلفزيونية صغيرة، يمكن التحكم فيها من مواقع للمراقبة عن بعد. ومن الصعب اختراقه، وقد بُني داخل أراضي الضفة الغربية من خلال مصادرة مساحات كبيرة من أراضيها، وتجريفها وتدميرها. يبلغ عرضه من 80 إلى 100 متر. وبذلك فإن المساحة التي احتلها الجدار تبلغ 73000 دونم بحدّها الأدنى، وهو رقم خيالي..! وتم تجريف حوالي 187 ألف دونم في محافظات جنين وقلقيلية والقدس لبنائه. وبحسب دراسة للباحث محمد غنايم، نهب الجدار 46% من أراضي الضفة الغربية ضمن حدود عام 1967 و4% من أراضي القدس الشرقية، فيما ستتم مصادرة 3.5% منها لصالح إسرائيل. وهو يعزل أكثر من 97 قرية فلسطينية، يقطن فيها حوالي 372.999 نسمة. وقد تم هدم 4656 بيتاً باستثناء ما تم هدمه في محافظة نابلس. وللمرور عبر الجدار، يحتاج الشخص تصريحاً خاصاً، علماً أن حوالي 50% من بوابات التنقل (73 بوابة) بين المنطقتين داخل الجدار وخارجه لا تعمل..!
وعلى الرغم من أن البحر يحمي إسرائيل من الغرب، والجدار العازل من الشمال والشرق، إلا أنه لم يكن كافياً للشعور بالأمان. وانطلاقاً من نظرية (وبالأصح عقدة) إسرائيل في مسألة الأمن، فقد عمدت سلطات الاحتلال إلى بناء جدار فصل أمني على الحدود مع الجولان. وفي عام 2010، اتخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً ببناء جدار إلكتروني عازل يمتد على طول الحدود المصرية، خوفاً من تسلل المهاجرين غير الشرعيين، يمتد على 240 كلم، وقد أنهت المرحلة الأولى منه مع بداية عام 2013. وذكرت وزارة الدفاع الإسرائيلية، يوم 20 يناير/ كانون الثاني 2016، أنها بدأت أعمال بناء "جدار أمني" بينها وبين الأردن، يشتمل، كما الجدران القائمة على الحدود مع مصر والجولان، على طرقات وأبراج مراقبة ووسائل تقنية متطورة للرصد والملاحقة. وبدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي، في الربع الأخير من عام 2016، إقامة جدار إسمنتي عازل على الحدود مع قطاع غزة، وبعمق عشرات الأمتار في باطن الأرض، بغرض منع المقاومة من بناء الأنفاق، وتنفيذ عملياتها من خلالها.

عولمة الجدران
ولعلّ الطريف في الأمر، وربما المضحك المبكي في آن، أن شظايا جدار برلين الذي تحطم
وصلت إلى عدد من الدول، بعد أن عمّمت العقلية (اليهودية الانعزالية) هذا المفهوم، فالجدار الذي تم هدمه وبيع حجارته قطعاً أثرية، للدلالة على انهيار آخر جدار فصل في العالم، لم يكن أحد ليتوقع أن يكون انهياره سبباً في بناء عشرات الجدران في العالم، والتي بدأتها إسرائيل، وهي دولة فصل عنصري بامتياز.
وفي حين شهد القرن الحادي والعشرون انفتاح الشعوب على بعضها من خلال (العولمة)، وقد دعت إليها وروجتها الولايات المتحدة الأميركية تحديداً، وأظهرت الشعوب الأوروبية في البدء، مقاومة لها، فإن الانغلاق على أرض الواقع، أصبح على أشدّه. بل هو جنون الانغلاق والعزلة الذي بدأت به دولة الاحتلال الإسرائيلي، لتشيعه في دول العالم. فقد انتشرت فكرة الجدار العازل بدايةً في الشرق الأوسط ومن ثم في العالم، بشكل عبثي وجنوني...! فالأميركان عزلوا المنطقة الخضراء في بغداد بجدران عازلة، ولم يكتفوا بذلك، بل بنوا جدراناً إسمنتية حول بعض الأحياء والمناطق، لفصل كل واحدةٍ عن الأخرى، تبعاً لانتماءات سكانها الدينية والمذهبية، لكي تتعمق الخلافات بين الشعب الواحد، أكثر.
وبعد أن بدأت اسرائيل ببناء جدارها العازل في الضفة الغربية، عاد بناء الجدران ليستعر بين الدول التي أصبحت تتسابق تباعاً لبناء جدرانها.

كل هذه الجدران والعوازل
في العام 2010، كانت إسرائيل تبني جدارها العازل مع مصر، وفي الوقت نفسه، كانت مصر تبني جداراً فولاذياً عازلاً على الحدود بينها وبين قطاع غزة. بُدئ العمل في تنفيذ المرحلة الأولى منه في 2009، بتركيب أجهزة جيولوجية عالية التقنية، للكشف عن الأنفاق بين مصر والقطاع. وفي 2010، بدأت مصر بناء الجدار الفولاذي على طول المنطقة الحدودية، وهو جدار تحت الأرض، لمنع بناء الأنفاق، حيث يتكون الجدار من ألواح من الصُلب المعالج الذي تم اختباره ليقاوم الصدمات وحتى التفجير بالديناميت، كل لوح منه بعرض 50 سنتم وطول 18 متراً، مزوّد بمجسّات ضد الاختراق. وتذكر مصادر أن الألواح صُنعت في الولايات المتحدة، بينما تؤكد أخرى أنها من صنع روسي. وفي كل الأحوال، يتم دق هذه الألواح في الأرض بآلات ضخمة، مخصصة لهذه الغاية، بعمق من 20 - 30 متراً تحت سطح الأرض.
وبكل فخر، أعلن مسؤولون في واشنطن عن نية الولايات المتحدة ببناء جدار (أمني) بطول 3150 كلم على حدودها مع المكسيك، قد يكون الأكبر والأطول في العالم، لمكافحة التهريب والتسلل والاختراقات الأمنية..! وسوف يتم تجهيزه بالكامل في العام الجاري 2017. وقد وصفه ناشطون في حقوق الإنسان بأنه جدار الكراهية الذي تبنيه الولايات المتحدة بينها وبين جيرانها، بدلاً من مدّ جسور التواصل. وكان من أهم وعود الرئيس الأميركي، دوناد ترامب، لناخبيه، خلال ترشّحه، هو البدء ببناء الجدار فوراً، وقد أقرّ مجلس الشيوخ توفير ميزانية لهذه الغاية.

وبحسب الموقع الإلكتروني "تركيا بوست"، نقلاً عن صحيفة أكشام التركية، بدأت تركيا منذ العام 2015 بمشروع ضخم لبناء جدار إسمنتي إلى جانب جدار آخر من الأسلاك الشائكة بطول 108 كلم، على حدودها مع سورية، بالإضافة إلى حفر خنادق بطول 386 كلم على الحدود.
وفي يناير/ كانون الثاني 2015، أكملت الحكومة المغربية بناء جدارها الفاصل على الحدود مع الجزائر، والذي يمتد إلى أكثر من 100 كلم، بارتفاع يصل إلى ثلاثة أمتار. والهدف منه، بحسب الحكومة المغربية، محاربة الهجرة السرية وعمليات التهريب.
وبحسب "سي إن إن"، بدأت الجزائر، في منتصف عام 2016، ببناء جدار عازل بينها وبين المغرب، بارتفاع حوالي سبعة أمتار وعرض مترين، يمتد على مسافة 271 كلم، من ولاية تلمسان، بهدف محاربة تهريب المحروقات من الجزائر إلى المغرب، بالإضافة إلى الحدّ من تجارة الحشيش بين البلدين.
وفي أغسطس/ آب 2013، أقرّ الرئيس التونسي، المنصف المرزوقي، إقامة منطقة عازلة جنوب شرق تونس لحماية الحدود ومنع تهريب الأسلحة والإرهابيين. وقد تم البدء بإقامة المنطقة العازلة على الحدود مع ليبيا، ابتداء من معبر رأس جدير الحدودي، وهي خندق بعمق مترين إلى مترين ونصف المتر، ويمتد مسافة تتجاوز 200 كلم. كما تم بناء ساتر ترابي بين كل كيلومترين من الخندق، وسيتم تثبيت أجهزة إلكترونية حال الانتهاء منه.
وبالإضافة إلى بدء الجزائر بناء جدران ترابية عازلة على حدودها مع ليبيا وتونس في العام الماضي (2016)، وبالإضافة إلى جدارين عازلين بُنيا بين السعودية والعراق وبين السعودية واليمن، كانت بلغاريا قد أنهت، في عام 2014، بناء جدار عازل على الحدود بينها وبين تركيا، لمنع تسلل اللاجئين والمهربين. وهناك جدار بين العراق والكويت وإيران وباكستان... إلخ. ومن المستحيل متابعة جميع الجدران التي تم ويتم بناؤها في العالم.
وبالنتيجة، أصبح بناء الجدران العازلة بين الدول من سمات بدايات القرن الحادي والعشرين، ما يشير إلى واقع الانفتاح والانغلاق المتناقضين. انغلاق الحدود الفعلي على أرض الواقع في مقابل الانفتاح اللامحدود ضمن آفاق التواصل بين البشر عن طريق برامج التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال الحديثة، والسفر والمؤتمرات والعمل.
ويبدو أن بناء الجدران أصبح عقلية واقعة وآلية حمقاء في التفكير، تعبّر عن (الأنا) الكامنة التي تعيش في أعماق البشرية (الإنسان)، وخوفه من هذ الانفتاح، وهروبه نحو الانغلاق الذي بدأت ببثّه وانتهاجه نهجاً متأصلاً (إسرائيل).
وكما يُلاحظ، تعدّدت أسباب بناء الجدران، ما بين سياسية لمنع اللاجئين وعسكرية لمنع المتسللين واقتصادية لمنع المهربين، لكنها، في معظم الحالات، تقمع فقراء العالم من الحصول على فرصةٍ في التغيير والحياة، وتعود بالإنسانية إلى الوراء. أما الأنظمة الإمبريالية التي سعت إلى تعميم ثقافة العولمة والانفتاح لدى شعوب العالم، وعاثت في الأرض حروباً وفساداً، بسبب عنجهية قراراتها وغبائها، فأصبحت تحاول الانغلاق على نفسها من نتائج ما صنعت، لحماية نفسها من القادمين الجدد. ليس من المجرمين فقط، بل من فقراء العالم الذين هجّرتهم وزادتهم فقراً...!
ومن المهم الإشارة، هنا، إلى أن جميع الجدران المذكورة بُنيت على حدود بين الدول، إلا جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة، فهو عنصري، يعمل على التمييز بين اليهود والفلسطينيين على أراض فلسطينية، حيث يوفر للمحتَل الطرقات الواسعة والسهلة والمباشرة للتنقل، مع الحماية، في حين يحرم الشعب الفلسطيني المحتَل من الطرقات الطبيعية للتنقل، حتى بين المواطن وبيته ومزرعته وأرضه، وبين الطالب ومدرسته.
ولكن، كما انهار جدار برلين ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لا بد أن تنهار جدران الكراهية والعنصرية التي بُنيت، ولو بعد حين... ويبقى السؤال: هل بناء الجدران يعزل من هم في الخارج، أم يشير إلى العقلية الانعزالية لمن هم في داخلها..؟ وهذا مبحث آخر.
601CD64B-7250-4FB2-B2A1-F72C4D604F72
601CD64B-7250-4FB2-B2A1-F72C4D604F72
سامية العطعوط

كاتبة وباحثة وقاصة وروائية من الأردن، بكالوريوس في الرياضيات، لها عدة كتب وأعمال إبداعية، وحازت عدة جوائز أردنية وعربية.

سامية العطعوط