النساء هدية قاضي دمشق

النساء هدية قاضي دمشق

13 فبراير 2017

(عصام معروف)

+ الخط -
من حق كل الشعوب أن تكون لها أفراحها وأعيادها، مثلما هو من حق كل إنسان أن يختبر المشاعر التي منحته إيّاها الطبيعة. لكن، هل كل المشاعر والغرائز التي وجدت مع الإنسان عبّرت عن نفسها بفطرتها تاريخيًا؟ الجواب بالتأكيد أنها لم تعبّر، بل تعرّضت عبر التاريخ إلى اللجم والتقييد والمحاصرة، بحجة تنظيم الحياة المجتمعية، وحاصرتها الثقافة المتحولة عبر العقود إلى نزعةٍ تسلطيةٍ، تنمو وتزدهر، ليصبح الفرد رقيب نفسه وسلوكه، بشكل ذاتي، مخافة مواجهة السلاطين الجائرة، من اجتماعية ودينية واقتصادية وسياسية وغيرها. وليس أمتن من تحالف هذه السلاطين في مجتمعاتٍ تديرها أنظمةٌ شموليةٌ قمعيةٌ تلغي الفردية، وتزجّ حياة "رعاياها" في أنساق قانونية فصلتها، بحسب مصلحتها.
للسنة السادسة، تمر واحدةٌ من المناسبات التي كانت تحتفل فيها شريحةٌ لا بأس بها من الشعب السوري، وسورية ما زالت مضمخةً بدماء أبنائها، باللون الأحمر الذي كان يضفي حضوره على الأسواق والواجهات والمقاهي وأغلفة الهدايا المتبادلة بين العشاق، عيد الحب الذي تأثر كغيره من نشاطات المجتمع بالعولمة، خصوصًا بعد الانفتاح الذي وفّرته الثورة الرقمية، كان فرصةً تمنح الحياة حراكًا خاصًّا مبهجًا إلى حد ما، وتمنح الأفراد أيضًا شعورًا، ولو كان مؤقتًا، بأنهم متماثلون مع غيرهم من الأفراد في المجتمعات الأخرى، من حقهم أن يعيشوا ويعبّروا، وهذا أمر ليس سيئًا بالضرورة. وهذا لا ينفي أن الواقع كان يضمر محاصرةً للحب أسلوب
تربيةٍ، ونمط معيشةٍ معلن، وسلوكاً فردياً وجماعياً، فمعظم حالات الحب لم تكن لتجرؤ على أن تكون علنيةً، حتى عند الأفراد الذين حققوا هامشًا لا بأس به من الحرية الشخصية، على الرغم من أن الحب من أكثر القضايا الإنسانية التي ملأت صفحاتٍ لا تعد من القصائد والخواطر والروايات، وأن الأغاني العربية تكاد لا تخلو أغنيةٌ منها من اللواعج والآهات ومناجاة الحبيب وحالات العشق والهيام حد الولع والوله بالمحبوب.
لكن عيد الحب في هذا العام يدفع إلى التمعّن بهديةٍ قدّمها القاضي الشرعي في دمشق، محمود المعراوي، في تصريحه الذي يقترح فيه على الرجال الزواج باثنتين، ولمَ لا، فالشرع يسمح بأربع على أن "يعدلوا"؟ ويعتبر اقتراحه بمثابة حلّ لمشكلة "العنوسة" نتيجة للحرب، كما قال. وكان المعراوي قد أوضح عن نيّة القضاء بالتساهل بمسألة الزواج من ثانية، خصوصاً في ما يتعلق بالشروط المادية للزواج الثاني، أي لجهة "ثمن المرأة" الذي ما زال متجذّرًا في الثقافة السائدة، حتى لو ملكت المرأة أعلى المراتب العلمية والوظيفية. يأتي تصريحه هذا مثلما لو أن وضع المرأة السورية كان أفضل في ما مضى لناحية تعدّد الزوجات، ومثلما لو أن القانون السوري الخاص بالأحوال الشخصية كان قد ألغى هذه المادة، أو أن التوجه العام، ثقافيًا وسياسيًا، في سورية "العلمانية" كما ادعى نظام البعث خمسين سنة مضت، كان نحو ترويج مجتمع مدني، أحد تجلياته الزواج المدني الذي قال عنه القاضي الشرعي في تصريح سابق إنه يشكل تهديدًا لأمن سورية القومي.
كان تعدّد الزوجات مسموحًا به في سورية "العلمانية" تحت ظل حكم "البعث" الحزب "التقدمي، القومي". وكان وضع المرأة والأسرة مثل قضايا اجتماعية عديدة مركونًا في الظل، لم يقاربه "البعث" إلا مواربة، ولم يجرؤ على فتح أبوابه إلاّ بحذر، أو بذرائعيةٍ تخفي خلفها نية الظهور بمظهر تحرّري مناهض للرجعية، بكل أشكالها. وبحسب إحصائياتٍ لا أستطيع الجزم بمدى دقتها، فإن نسبة الزواج المتعدّد كان قبل الحراك السوري يشكل 5% من مجموع الزيجات، بينما ارتفعت النسبة في عام 2015 إلى 30%.
لا أحد ينكر أن الحرب التي تغوّلت في سورية، بسنواتها الست، قد أحدثت زلزالاً في كل مناحي الحياة، وأخطرها الزلزال الاجتماعي، والنكوص في الوعي العام إلى حقبةٍ كانت تعيش، بكل كمونها الحيوي، في نفوس الأفراد، حقبة القبلية والعشائرية وحواملها الثقافية المتكئة على الدين في معظم جوانبها.
ليست المناطق التي كانت منفتحةً بهامشٍ ما اجتماعيًا في سورية هي المقياس على مدى التقدم المجتمعي، أو التحرّر من قيود الماضي والموروث، مثل مدن الساحل وبعض مناطق المدن الكبيرة، مثل العاصمة دمشق وحلب وغيرهما، هي المعيار، إذ هناك مناطق كثيرة، وعددها ليس قليلاً في القطر السوري، كانت تعيش وفق منظوماتها القيمية والمعرفية التي سارت عليها حياتها عقوداً وقروناً، ولم يحصل الاندماج الاجتماعي بين المناطق السورية، كما لم تسعَ الحكومة إلى هذا الدمج، وإلى فتح ثغراتٍ في تلك المنظومات المغلقة، وبقيت الأعراف وقوانينها الناظمة حياة الناس.
وفي وقتٍ كانت فيه الشعارات الطنانة تبجل المرأة وتمننها بالمساواة مع الرجل وضمان حقوقها، وقت الحقوق المغتصبة على صعيد المواطنة، لم يكن وضع المرأة كريمًا، كما يليق بمواطن من رتبة إنسان، فعلى الرغم من دخولها سوق العمل، بضغط الحياة الاقتصادية بشكل أساسي، بقيت أسيرة العادات والتقاليد والثقافة السائدة بكل ما تحمل من سلطةٍ ذكوريةٍ وجور بحقها كإنسانة، وبقيت المرأة، في الغالبية الساحقة من المجتمع السوري، مهمشّة مسلوبة الإرادة بدرجات، حتى غير قادرة على إدارة حياتها الشخصية. عندما دخلت سوق العمل، كانت رافدًا لدخل الأسرة، بنتاً في أسر عديدة الأفراد، وزوجةً وأما في ما بعد، لكنها بقيت ترزح تحت خوف الطلاق إن عاندت رغبات الزوج، أو تحت تهديد الزواج الثاني، أو محاصرة المجتمع لها، وبقيت لا ترث إلا نصف ما يرث الذكر، فيما لو ورثت، وتحاسب في قوانين "الديّة"، أو الفدية، مثل الذكر لو كانت الفاعل، وثمن دمها نصف ثمن الذكر لو كانت الضحية. يمكن
استعراض الكثير عن وضع المرأة البائس قبل سنوات الزلزال السوري. لكن، ليس مجاله هنا، إنما ما تريد المقالة قوله إن المرأة لم تتحرّر في سورية، ولم تُبنَ شخصيتها على أساس إدراك الذات والاستقلال وامتلاك الإرادة والقدرة على مواجهة الحياة بمفردها، بدون خيمة تظلّلها أو حائط تتكئ عليه: الرجل، فهي بقيت ناقصةَ أهليةٍ، وبقيت النظرة التقليدية لها مكرّسة في الوعي العام والضمير الجمعي، متأثرة بالخطاب الديني ونظرة الدين ورجاله الذين يسيطرون على المجال العام إليها. لذلك، ليس مستغربًا أن تتردّد كلماتٌ مثل السترة والحماية وصون العرض وغيرها في المداخلات والتبريرات، التي حرّكها تصريح القاضي الشرعي في دمشق، كان لسان الحال يردّد ويكرّر، إن كان الحديث لرجل أو امرأة. جاء هذا الاقتراح ليحل مشكلة العنوسة، أو النساء اللواتي فقدن أزواجهن بسبب الحرب، فذلك يحميهن من الفقر والتشرّد والجوع، ويسترهن، باعتبارهن عورة بدون الرجل، وإلاّ ما معنى السترة هنا؟
هل هذا هو المجتمع المدني الذي حلم به قسم كبير من الشعب السوري؟ وهل تحلّ قضايا المجتمع، وأكثرها حساسية قضية المرأة، بترويض الحياة بما يتناسب مع خطاب ديني معين، في وقت يتداعى فيه المجتمع، وتتداعى مؤسسات الدولة، ويعيش أغلب الشعب دون خط الفقر؟ هذا المجتمع المتداعي يلزمه طرح حلول أخرى، يواكبها إنعاش للوعي، وإنقاذه من النكوص الماضوي، وتفعيل النظر إلى المرأة كائناً بشرياً يحمل هوية إنسانية، مثل الرجل، ومن دون إنعاشها على هذا الأساس، لا يمكن للمجتمع أن ينهض متجاوزًا أمراضه.