الطغاة يبحثون عن "الأخلاقية"

الطغاة يبحثون عن "الأخلاقية"

11 فبراير 2017
+ الخط -
في التقرير المروّع لمنظمة العفو الدولية عن إعدام النظام السوري نحو ثلاثة عشر ألف سجين في سجن صيدنايا بين 2011 و2015، يظهر سؤال مهم: لماذا يحتاجون كل هذه التفاصيل؟ لماذا كانت الإعدامات لا تتم إلا بعد محاكمة عسكرية، حتى لو كانت صورية تستغرق دقائق، ولماذا الإعدام بالشنق؟ لماذا لم يطلقوا النار على من شاؤوا ببساطة؟
يظهر السؤال نفسه بشأن إصدار الكنيست الإسرائيلي قبل أيام قانون "تبييض المستوطنات". لماذا يحتاجون إصدار قانون مليء بالتفاصيل الدقيقة، ومنها النص على التأكد من "حسن نية المستوطنين" وتعويض مالي مجزٍ للفلسطينيين، وغيرها؟ هذه دولة احتلال قائم بالسلاح بالفعل، فلماذا لا يستولون على ما شاؤوا ببساطة؟
جانب من التفسير هو سعي البشر الدائم نحو الغطاء الأخلاقي، مهما كان الواقع مختلفاً، بل كلما زاد الانحطاط في الواقع ازدادت الشعارات جمالاً ومزايدة. وفي هذا المجال تتنافس الشعارات الإسرائيلية، مثل "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" و"الشعب لا يمكن أن يكون محتلاً في أرضه"، مع شعارات النظام السوري مثل "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، "وحدة، حرية، اشتراكية".
لسنا نظاماً يقتل شعبه، بل هؤلاء مُجرمون أقمنا لهم محاكمات، وأُعدموا بالطريقة القانونية. نحن لسنا دولة احتلال، بل دولة ديمقراطية، وهذه الأرض صودرت بإجراءات قانونية سليمة تماماً. هذه رسالة لتثبيت الداخل قبل الخارج، وللنفس قبل الآخر، وهم يصدّقونها حقاً لا خداعاً.
جانب آخر من التفسير هو الدولة الحديثة القائمة على توزيع السلطة في بنيتها، بحيث ينتفي الدور الأخلاقي تماماً، ليس بمعنى مناقضته، بل بمعنى انعدام وجوده، بفصل الأهداف عن الأفعال جذرياً، بحيث تنتفي المسؤولية عن الفاعلين. وفي هذا المجال، اشتهر تعبير "تفاهة الشر" للفيلسوفة حنا أرندت التي ابتدعت هذا التعبير، بعد حضورها محاكمة النازي أدولف إيخمان، والذي كان مسؤولاً عن ترحيل اليهود إلى المعتقلات التي قُتلوا فيها بأفران الغاز، وتمكّنت إسرائيل من جلبه من مخبئه في الأرجنتين للمحاكمة في القدس. كان إيخمان يدافع عن نفسه في الجلسات بأنه كان مجرد موظف بيروقراطي لا أكثر، كانت تأتيه الأوامر من المستويات الأعلى، فينفذها لأن هذا عمله فقط بلا أي مشاعر أو انحيازات.
يستفيد الطغاة والمنظومات الظالمة من نزع المعنى عن الأفعال. حينها، لا يرى الإسرائيليون بشراً يُنتزعون من أرضهم، بل مجرّد خرائط وأرقام، ولا يرى حرّاس سجن صيدنايا بشراً يُعذبون ويُشنقون، بل مجرد قوائم أسماء وجداول. ولذلك، كان لا بد من ممارسة "آليات الضبط"، كما يسميها ميشيل فوكو على السجانين مثل المسجونين، فليس من حق سجّان أن يقتل عشوائياً من شاء، بل يجب أن يأتيه الأمر من المستوى الأعلى.
ولا يعني هذا وجود تماثلٍ مطلقٍ بين التجربتين. في إسرائيل نظام "الضبط" كفؤ إلى حد عدم الحاجة للإفراط في القوة، لا يُقتل مئات الفلسطينيين يومياً كما يحدث للسوريين، بل تم استيعاب الفلسطينيين أنفسهم، إلى حد كبير، في تفاصيل الدولة وبيروقراطيتها، وهذا ما شرحه فوكو عن عدم حاجة الدولة الحديثة الكفوءة للسيطرة على الأجساد بالعنف المباشر، كالتعذيب أمام العامة كما كان يحدث في الماضي.
وفي إسرائيل جهات حقوقية وقضائية وبرلمانية ترفض قانون تبييض المستوطنات الذي يلقى مقاومة حقيقية، بينما في سورية الأسد لم يرفع إنسان صوتاً يستنكر ما يحدث في سجونه.
بجانب الصراع الرئيسي الواقعي الذي يخوضه الشعب السوري ضد الاحتلال الداخلي، أو الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الخارجي، هناك صراع آخر لا يمكن إهماله، وهو هذا الصراع حول الأخلاقية، وحول الخطاب السياسي.
في كل وقت، يجب أن نقولها ونثبتها: أقوالكم لا تغير من أفعالكم. نظام بشار قاتل، وإسرائيل دولة احتلال، لأن هنا والآن يُقتل السوريون، ويُستولى على أراضي الفلسطينيين. لا تعنينا شعارات النظام السوري عن دعم المقاومة لتبرير الاستبداد، كما لا تعنينا شعارات إسرائيل عن ديموقراطيتها لتبرير الاحتلال. نحن في غنىً عن مقاومة القاتل للمحتل، أو دروس المحتل للقاتل.