صناعة الموت في سورية

صناعة الموت في سورية

11 فبراير 2017
+ الخط -
تقرير منظمة العفو الدولية الذي وثّق 13 ألف حالة إعدام في سجن صيدنايا، خلال السنوات الخمس الماضية وحدها، مع ما رافق ذلك من أعمال التعذيب والتنكيل وكل أشكال الحط بالكرامة الإنسانية، أثار رد فعل واسعا في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية الدولية. وبعد أن وصفت المنظمة السجن بالمسلخ البشري، ونقلت صورا من الهمجية غير المسبوقة فيه عن تدمير المعتقلين نفسيا وجسديا، قال وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، إن تقارير "العفو الدولية" عن الإعدام في سورية أصابته بالغثيان. وصرح وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك إيرو، بأن هذه الوحشية لا يمكن أن تكون مستقبل سورية. وصرّح السفير الأميركي السابق لشؤون جرائم الحرب، ستيفن راب، في مقابلة مع "سي إن إن" بأن هذه الإعدامات ليست سوى جزء من قائمة تضم أكثر من 50 ألف سوري عذبوا وقتلوا على يد حكومتهم بتوجيهاتٍ من أعلى المستويات، وهي جرائم ترتكب بإشراف المؤسسة العسكرية السورية، ومؤسسات أخرى، تحت إمرة الرئيس السوري، "والأدلة التي بحوزتنا ضخمة يمكنها أن تقود إلى محاكمة واضحة وصريحة على المستوى الدولي". أما رئيس لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في سورية، باولو بينيرو، فقد صرح لـ"رويترز" "لدينا معلومات مستفيضة بشأن التفاصيل الممنهجة للمراسم المنتظمة التي يقيمونها لعمليات الإعدام الجماعي أمام حضور من المسؤولين الحكوميين".
والواقع أن هذه الإعدامات الجماعية ليست إلا فصلا من كتاب الموت الذي أصبحت صناعته البرنامج الوحيد لنظام الأسد منذ عقود، والذي رفض العالم من قبل قراءته أو حتى تصفحه، مفضلا إمعان النظر في كرافات بشار الأسد وثياب زوجته المختارة من أكبر بيوت الأزياء العالمية، بل إن الإعدامات في هذا الفصل أقلّ وحشيةً، على الرغم من هولها مما يسبقها والطريق الذي يوصل إليها، حتى أن المتظاهرين كانوا يقولون لنا إن ما يخشونه ليس الموت برصاص الجنود، وإنما الاعتقال من قوات الأمن".
لا يمكن لهذه الإعدامات المشينة إلا ان تذكّرنا، وينبغي أن تذكّرنا، بفصول الكتاب الأخرى التي لا تقل شناعةً عنها، وفي مقدمها استخدام حصار التجويع "واحداً من تكتيكات الحرب، وذلك
لإجبار أهالي المدن والبلدات على الاستسلام بعد تجويعهم"، كما جاء في تصريح سابق لباولو بينييرو نفسه، والذي يتسبّب في إبادة مدن وأحياء كاملة وموت جزء من سكانها وتشريد من بقي حيا منهم، أو عن القتل الجماعي بالقصف الأعمى بجميع الأسلحة الثقيلة، وبالبراميل المتفجرة التي تتساقط على المدن السورية يوميا منذ ست سنوات، لا على التعيين، أو الهجومات بالأسلحة الكيميائية والقنابل الحارقة والغازات السامة، أو عن اصطياد الشباب من الطرقات وإجبارهم على القتال كدروع بشرية، حتى لم يعد يرى المرء في شوارع المدن السورية سوى النساء والشيوخ والاطفال، إلى جانب مرتزقة الحشود الطائفية الأجنبية.
أمام هذا الكم الهائل من الانتهاكات التي حوّلت المجزرة البشرية إلى حدثٍ يومي عادي، تركّزت الأسئلة، عن حق، على سكوت المجتمع الدولي وشلله، على الرغم مما تقدمه منظماته الإنسانية نفسها من براهين دامغة على كارثةٍ، لا يبدو أن دولاً كبرى كثيرة تشعر بالقدرة على مواجهتها أو بالمسؤولية عن إيقافها. والحقيقة أن موقف الحكومة الروسية شكل عاملا حاسما في تعطيل قرارات الأمم المتحدة، أو تفريغها من محتواها، لأسباب جيوسياسية واستراتيجية، لم يعد أحد يجهلها، وهي وضع المصالح الكبرى للدولة الروسية، وتحسين موقعها على خريطة النفوذ الدولي، وتأكيد حقها في أن تكون طرفا مرهوب الجانب، ومسموع الكلمة من أندادها من الدول الكبرى، وأن تحترم مصالحها، حتى التوسعية منها. لكن، ما كان لهذا الموقف الروسي أن يتجلى بهذه الصورة، ولا أن يستمر في تحديه جميع المواثيق والأعراف الدولية والاعتبارات الإنسانية، لو لم يصادف في مواجهته سقوطا أخلاقيا عالميا شاملا نابعا من التخلي عن قيم التضامن الإنسانية، والتواطؤ المشترك، وغير المعلن، ضد القانون والعرف الدوليين، والانكفاء على الذات، والقبول بدفع أي ثمن، بما في ذلك السير على جثث الشعوب والجماعات، ودوس روادع الدين والثقافة والبداهة العقلية، للحفاظ على مصالح خاصة قومية أو فئوية، تبدو مهدّدة أكثر فأكثر. وربما كان هذا من مظاهر الأزمة التي تمر بها المنظومة الدولية، وفي صلبها مأزق الهيمنة الدولية والرأسمالية المعولمة وتخبط سياساتها. كل الدول تشعر في هذه الأزمة بالهشاشة، ومخاطر الخسارة والتراجع، وربما فقدان السيطرة، بما في ذلك الدولة الأعظم، وكل طرفٍ يحاول أن ينقذ نفسه بأي ثمن. العالم كله، وقد تحوّل إلى جسم واحد، هو اليوم في مأزق إعادة ترتيب شؤونه وضبط علاقاته وفتح نوافذ أمل صغيرة، لطمأنة مجتمعاته.
لكن السؤال الأهم والأصعب يتعلق بنا نحن. كيف أمكن لنظام حكمٍ، أقام شرعيته على رفع
شعارات الدفاع عن حقوق الشعب، وتبنى أيديولوجيات شعبوية اشتراكية وإنسانية ضد الرأسمالية والاستغلال والإقطاعية، وبرّر انقلابه على الدستور، وتخليد ديكتاتورية أبوية بالدفاع عن حقوق سورية القومية ومقاومة التوسعية الإسرائيلية، وجعل من موضوع السيادة الوطنية مسألة هوية، أن ينزلق إلى ما انزلق إليه، ويتحوّل إلى آلة قتل منهجي ومنظم لشعبه، ويحول سورية بأكملها إلى مسلخٍ تسيل فيه الدماء في كل زاويةٍ وبيت، ويفقد فيه الإنسان روحه وعقله وإنسانيته كل يوم ألف مرة. كيف فقد النظام عقله، أو هل كان يتمتع بالفعل بحدٍّ أدنى من العقلانية والعقل، أعني هنا من السياسة، أم كان منذ بدايته نظام حرب؟
سجن صيدنايا والسجون السورية جميعا ليست وحدها المسالخ البشرية في سورية. والسلخ فيها لا يقتصر على سنوات الثورة الست، فكل دائرة عسكرية أو أمنية، وكل فرقة وكتيبة أو فرع أمن، وكل مدرسة ومصنع، وكل حي أو شارع، هو مركز لسلخ الإنسان عن ذاته وكرامته وحريته وأهله وحقوقه، عن قيمه، ومحطة لتحطيمه وإعطابه، روحيا وجسديا، بكل وسيلةٍ ممكنة، وفي كل وقت. سلخه عن جلده بالمعنى الحرفي للكلمة هو التجسيد النهائي لعملية نزع الإنسانية التي أقام عليها نظام الأسد حكمه، منذ أكثر من أربعة عقود، والتي أراد من خلالها أن يحول الانسان إلى حيوان، بالمعنى البيولوجي للكلمة، ويفرغ سورية من شعب/ها، أي من ذاتها، كما يفعل تماما الآن بالعنف الشامل، حتى تكون ملكا خالصا له، بدولتها وأرضها ومن عليها. لم ير النظام في السوريين في أي لحظةٍ شيئا آخر، بشرا يجدر التعامل معهم، وإنما زوائد وحثالات وقوارض، ينبغي التخلص منهم، أو تحييدهم بأي ثمن، وفي أحسن الحالات، تكبيلهم بالقيود والأصفاد، لاستخدامهم في أعمال السخرة والخدمة المجانية.
مهم أن نسأل لماذا تخلى العالم عنا، لكن مهم، بالمقدار ذاته، أن نعرف أيضا كيف تحول "نظام حكم" إلى جزّار، وحول البلاد إلى مسالخ مفتوحة في كل مكان؟ ما هو أصل الهولوكوست الأسدي؟ كيف أصبحت الإبادة سياسةً، وصار نزع الإنسانية عقيدة ومذهبا. هذا هو السؤال الذي سأحاول الإجابة عنه في مقال لاحق.
6D092B77-13C9-408B-B390-4D98C0529A6E
برهان غليون

أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، من مؤلفاته: "بيان من أجل الديمقراطية" و"اغتيال العقل" و"مجتمع النخبة".