الرهان على الحصان الخاسر

الرهان على الحصان الخاسر

08 ديسمبر 2017
+ الخط -
مع مقتل الرئيس اليمني المخلوع، علي عبد الله صالح، على أيدي حلفاء الأمس من الحوثيين، تكون العربية السعودية والإمارات قد خسرتا من تَوَهَّمتا أنه يمكن أن يكون ورقتهما الرابحة لهزيمة الحوثيين وإيران في اليمن، بعد أكثر من عامين ونصف العام من حربٍ عبثيةٍ، وبلا أفق في ذلك البلد. المفارقة هنا أن صالح هو من تواطأ مع الحوثيين، وأدخلهم العاصمة صنعاء في خريف عام 2014، في التفافٍ منه على مخرجات الثورة الشعبية اليمنية التي أطاحته في عام 2012، منهيةً أكثر من ثلاثة عقود من حكمه الفاسد. والمفارقة الثانية أن السعودية هي من أنقذته من السقوط المريع عام 2012، وقبل ذلك تكفلت بعلاجه عام 2011، بعد محاولة اغتيال تعرّض لها، ثمّ سمحت له بالعودة إلى اليمن، ليناكف الرئيس الجديد والضعيف، عبد ربه منصور هادي، والذي كان هو الآخر محاولة التفافٍ سعودية على مطالب الثورة الشعبية اليمنية.
ومنذ أن تحالف مع الحوثيين عام 2014، وخاض من قبل ضدهم حروباً عدة، تحوّل صالح، في الإعلامين السعودي والإماراتي إلى "الرئيس المخلوع"، وأصبحت القوات الموالية له هدفاً لضربات "التحالف العربي" الجوية. ثُمَّ حدث التحول المفاجئ، يوم السبت الماضي، بدعوة صالح الشعب والجيش اليَمَنِيَّيْن إلى الثورة على الحوثيين، وإلى فتح صفحة جديدة مع السعودية، وهو ما رحب به الإعلامان السعودي والإماراتي، وأصبح صالح "الرئيس السابق"، وبارك
 "التحالف العربي" عودته إلى الحضن العربي. ولكن صالح كان قد أساء تقدير قوته على الأرض، بعد تغلغل الحوثيين حتى في وحدات الجيش وقوات الأمن التي كانت تدين بالولاء له، كما أنه أساء تقدير قدرة "التحالف" على دعمه، فكان أن انتهى به الحال صريعاً، يوم الاثنين الماضي، على أيدي خصومه، ليتحول إلى رثائيةٍ في الإعلام المحسوب على السعودية والإمارات.
واحدٌ من الدروس المستفادة من نهاية صالح المأساوية في اليمن أن السعودية بلا منازع بطل الرهان على الجياد الخاسرة. في الأمس، عادت صالح وراهنت على حصان هادي الخاسر. ثُمَّ إنها لمّا أرادت أن تراهن على صالح من جديد كان الأوان قد فات على ذلك، فهو أيضاً كان قد أضحى حصاناً خاسراً، بعد أن تمكن الحوثيون في اليمن. رأينا الأمر نفسه في لبنان مع رهان الحكم الجديد في المملكة على تغيير قواعد اللعبة في ذلك البلد، عبر احتجاز رئيس الوزراء، سعد الحريري، وإرغامه على الاستقالة من الرياض، مطلع الشهر الماضي. ولكن لم يلبث أن خرج الحريري، بضغوط دولية، إلى فرنسا، بعد أقل من أسبوعين، ثم عاد إلى لبنان، ليتراجع عن استقالته. ترى الأمر نفسه في تخبط السعودية في سورية والعراق، بل وفي الخليج العربي نفسه، كما في حصار قطر. القاسم المشترك بين كل تلك الرهانات الخاسرة بالنسبة للسعودية أنها تأتي في سياق التنافس الإقليمي مع إيران، وجميعها، على ما يبدو، تخسرها السعودية. باختصار، ومن دون مواربة، هذا حصاد المراهقة السياسية وهندسة الثورات المضادة الغادرة، والتي فَسَحَتِ المجال واسعاً لتمدد إيران وإسرائيل في المنطقة، وترسيخ إنجازاتهما على مستوى الإقليم كله.
ولكن رهانات السعودية الكارثية على الجّيادِ الخاسرة لا تقف عند ذلك الحد، بل هي أشد
 خطورة علينا جميعاً، نحن العرب المفعول بنا لا الفاعلين. راهنت المملكة، تحت حكم الملك الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، على العلاقة مع الإمارات، وحاكمها الفعلي، محمد بن زايد، فكان أن ذهب عبد الله، وجاء الملك سلمان، فتدخلت الإمارات في توازنات الحكم الداخلية الدقيقة في المملكة، كما تثبت وثائق بريد السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، المسرّبة، فانتهى الحال إلى اعتقال الأمراء الأقوياء وتحييدهم لصالح نجل سلمان، وولي العهد اليوم، الأمير محمد. الأخطر هو رهان الحكم الجديد في المملكة على العلاقات الشخصية الوثيقة مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وزوج ابنته، جاريد كوشنر، على حساب العلاقة مع المؤسسات الأميركية الراسخة.
تتعقد الأوضاع القانونية اليوم لترامب وصهره كوشنر في قضية التحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، ويبدو أن الأخير، على الأقل، لن يتمكّن من الصمود كثيراً في معادلة الحكم، وهو ما قد يرفع الغطاء، إن خرج كوشنر من المشهد السياسي الأميركي عن سياسات سعودية كثيرة في المنطقة، والتي تعارضها مؤسسات، كالخارجية الأميركية مثلاً. أما ثالثة الأثافي فهي التَوَهُّمُ أن إسرائيل حليفٌ طبيعيٌّ ضد إيران، وكأن إسرائيل مؤسسةٌ خيريةٌ لا تطلب مقابلاً. ولعل في التورّط السعودي في محاولة فرض إطار أميركي متعسف للحل على الفلسطينيين، ما يغنينا عن التفصيل هنا كثيراً.
قد يكون محور السعودية - الإمارات قد نجح في هَنْدَسَةِ ثورات مضادة، كما في مصر واليمن، كما قد يكون هذا المحور قد نجح في دفع شعوبٍ عربيةٍ كثيرة إلى تمنّي البؤس الذي كانوا يعيشونه قبل الثورات على الحال الراهن. ولكن حتى هذا، يثبت الآن، أنه كان رهاناً على حصان خاسر، أشعل المنطقة كلها، وحرق الأخضر واليابس فيها، ولن تلبث النيران أن تصل إلى من أشعلها، ولا يزال يصب الزيت عليها. إسرائيل وإيران لا تُهزَمان حنكةً وتوظيفاً لأدواتهما بشكل أكثر حذاقة، فحسب، إنما نُهزَم أمامهما أيضاً، لأن من يظن أنه يقود صفوفنا مراهق وطائش يتخبط يُمْنَةً وَيُسْرَةً.