الطائفية في لبنان عنوانُ وَهن خَانِق

الطائفية في لبنان عنوانُ وَهن خَانِق

07 ديسمبر 2017
+ الخط -
استقال رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، ثم تراجع عن استقالته. وعند استعادة المشاهد والأقوال والمواقف التي تلاحقت في الإعلام، منذ إعلان الاستقالة من الرياض إلى إعلان التريث بعد العودة إلى بيروت، مروراً من باريس والقاهرة، عند استعادتنا مختلف المشاهد الصانعة لذلك، ينتابنا شعور غامر بالأسى والضَّجَر من بؤس العمل السياسي في عالمنا. ويحصل لدينا الشعور نفسه، عندما نتابع ما أصبحت تعرف بأزمة الخليج المعلَّقة، وتنتظر تركيب مخرجٍ مُناسب لكل من تورّط في بناء محاورها، أو استسهل السياقات التي أفرزتها.
ينبغي أن لا نغفل أن الحدثين المشار إليهما أعلاه يُعدان بامتياز عنواناً كبيراً لتجليات الارتباك السائد في مشهدنا السياسي، إنهما يرتبطان بقاعدةٍ من الأحداث المُجَسَّمَة فيهما، يتعلق الأمر بالأوضاع المتردية في كل من سورية والعراق، كما يتعلق بالوضع في اليمن، حيث يتواصل الصراع بين التحالف العربي ومن يواجهونه في اليمن، ففي معطيات الحروب القائمة هنا وهناك، وفي التحولات الجارية في هذه البلدان، خيوطة كثيرة متصلة باستقالة الحريري وتراجعه عنها، ثم استبداله الأفعال الواردة أعلاه بمبدأ التريث. وفي كل ما سبق مظاهر تفشّي الطائفية المتوحشة واستتبابها في مجالنا السياسي، حيث أصبحت اليوم عنواناً صانعاً لأوجهٍ كثيرة من الفعل السياسي في مجتمعاتنا.
لم تسمح ظرفية اتفاق الطائف الإقليمية والدولية بتطوير آليات التفكير في كيفيات تجاوز عِلَلِ الحرب، وشروط الوفاق في لبنان، وَتَمَّ السكوت على معطياتٍ كثيرة تَمَّ طمسها وكبتها مؤقتاً، على الرغم من كل التضحيات التي قُدِّمَت في سنوات الحرب.. إلا أن التفاعلات الإقليمية التي عرفها المشرق العربي منذ 2011، حيث ترتّب عن الانفجارات السورية عملية تدويل اختلطت فيها القوى الإقليمية إيران وتركيا بالتدخلات الروسية والأميركية والأوروبية بحروب الإرهاب المتواصلة، من دون نسيان ما لحق بالشعب السوري من ويلاتٍ نتيجة كل ما ذكر سابقا، ونتيجة لحرص نظام الأسد وداعميه على تحويل الشام إلى خراب.
الغائب في كل ما يجري اليوم في المشهد السياسي اللبناني، بعد استقالة الحريري ثم تراجعه 
ورجوعه إلى بيروت، هو الموقف العربي القادر على المساهمة في تركيب ما يساعد على تجاوز المأزق الجديد، والدفع بالأحداث في اتجاه وقف التداعيات التي تضعنا اليوم على حافة هاويةٍ جديدةٍ قديمةٍ لا قرار لها.. يعترض معترض على هذا الكلام قائلاً، عن أي عرب تتحدث؟ عن الطوائف والملل والنحل أم عن ماذا؟ نُعاين اليوم ما يجري في لبنان، ونشاهد ما جرى في سورية والعراق، وما يجري في اليمن وليبيا، ونحن عاجزون عن فهم سياقات ما يحصل هنا وهناك وشروطه، فكيف يمكن أن نساهم في فك مغلقات ما يحصل؟
يواجه لبنان اليوم لحظة سفر الحريري إلى الرياض ثم عودته، كما واجه بالأمس لحظة اغتيال الحريري الأب نفقاً مظلماً، يصعب التكهن بتداعياته القريبة والبعيدة، فقد تداخلت الأصوات المفسّرة ما حصل، أصوات الدولة وأصوات المعارضة، أصوات السعودية وإيران، وأصوات فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، من دون إغفال أصوات إسرائيل المسموع منها والصامت. وفي قلب الجوقة القائمة، يحضر المكوِّن الطائفي ليرسم حدود ما يجري وآفاقه، فلا نعود في لبنان، بل نصبح في قلب منتجع الطوائف الذي لا علاقة له بالحاضر، ولا بالتاريخ.
الرمزية التاريخية التي يحملها لبنان في تاريخنا المعاصر، هي ما يحفز على الدعوة إلى التفكير بهدوء أكثر، في كل ما جرى في لبنان، فلا يعقل نسيان عذابات جنون الحرب الأهلية، ولا يعقل أن تواصل الطائفية هيمنتها على العقول، وعلى آليات النظام السياسي في بلدٍ أنتج مثقفوه مجموعة من نصوص أدبيات التنوير والتحديث في فكرنا المعاصر.
يقال هذا، لأن لبنان شكّل في الذاكرة الثقافية العربية لحظة إشعاعٍ شملت الفضاء العربي بضياءٍ 
كثير، وحقق لبنان، بفضل كثافة حضوره الثقافي الرمزي، ما منحه مكانة متميزة في المجال الثقافي العربي.. وقد ساعد لبنان في تحقيق المكانة المذكورة ما رسّخته طلائع المثقفين النهضويين العرب في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من منجزاتٍ في مجال الترجمة، وفي مجالات تطوير الحساسية الأدبية واللغوية في فكرنا المعاصر. وقد ارتبط ذلك بسمة التنوّع الاجتماعي والفكري الذي تعد من مظاهر الخصوصية التاريخية في الشام الكبرى، وفي المشرق العربي على وجه العموم.
ترسّخت المكانة الثقافية للبنان، بفضل جهود النشر ومختلف أدوات الصناعة الثقافية، وكذا بفعل انفتاح المشاريع الثقافية المتبلورة في ما يعرف بعصر النهضة العربية، كما ترسّخت بفعل قاعدة التعدد السياسي التي شكلت سنداً مُخْصِباً للتفاعلات الثقافية التي كانت تدور على صفحات منابره الإعلامية والثقافية، فكيف يصنع في قلب كل ما جاءت عليه السطور السابقة نظاماً للطائفية يواصل خنقه، فيتحول أداةً في أيدي طوائف وأنظمة سياسية متناقضة.

دلالات

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".