نهاية شمشون اليمن المأساوية

نهاية شمشون اليمن المأساوية

06 ديسمبر 2017
+ الخط -
مات علي عبد الله صالح مقتولا، داخل بلده، على يد أبناء من شعبه. مات بطريقةٍ بشعةٍ تشبه فظاعة الحروب اليمنية المنسية التي ظل يخوضها، ويقود شعبه إليها مثل حمال حطبٍ يذكي به نارها، لتستعير كلما خمدت، وحاطبُ الليل، كما يُقال، ملاقيها.
ليس المصير المأساوي لصالح الأول، ولن يكون الأخير، لحكام كُثر، أصابتهم لوثة السلطة حتى لدغتهم بسمومها. إنها مأساة شمشون الجبار التي تعيد تكرار نفسها مع توالي الحقب وتداول الأيام. وقد سبق أن كتب صاحب هذه السطور في هذا الركن في "العربي الجديد" أن مآل علي عبدالله صالح يشبه مآل شمشون الذي فُقِئت عيناه، فقرّر هدم المعبد على أعدائه، وعلى نفسه. ونهاية قصة شمشون المفزعة تقول إن عدد الموتى الذين أماتهم شمشون في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته! وهنا الجانب الآخر المفزع في ما ينتظر اليمن وشعبه بعد موت صالح.
نهاية صالح المأساوية ومسيرة حكمه الطويلة والكارثية وحروبه المتعدّدة والعبثية بمثابة ملهاة عصرنا السوداوية، لا مكان فيها للضحك أو البكاء، وإنما للتأمل والعبرة لمن يعتبر. فصالح لم يُقتل فقط عندما تم التمثيل بجثمانه، وإنما قتل مرات عديدة قبل ذلك. كان في كل مرةٍ يعود من موته المتعدّد مثل طائر فينيق، يخرج حيا من تحت رماده. هذه المرة، لن يحلق طائر فينيق اليمن مجددا في سماء جبال صنعاء التي تركها وراءه ملبدةً بدخان الحروب، وغربان الشؤم التي تحوم منتظرةً سقوط الضحية التالية.
كان القتل الرمزي الأول لصالح يوم خرج شباب الستين في صنعاء، حاملين لافتة كبيرة كتب 
عليها "ارحل". وكان القتل الثاني يوم حرقته قذيفة طائشة، وهو في مسجد قصره. وفي كل مرة لم يرعو، حتى ظن أنه أصبح ضرورة اليمن، وأنه خالدٌ لا يموت. وحتى عندما وقَّع على خروجه المريح من السلطة، وقبض مقابل "تنازله"، وأمّن على مصيره ومستقبل أسرته، عاد مثل حاطب الليل ينبش في رماده، حتى لقي مصيره الكارثي المفزع الذي يشبه بشاعة إصرار صاحبه على السلطة وتمسكه بها، وهو الذي كان يشبّه الجالس على كرسيها بالجالس على رؤوس الأفاعي!
بشاعة صور الفيديو الذي بثه الحوثيون، وهم يمثلون بجثمان الرئيس اليمني المقتول، جاءت لتذكّرنا ببشاعة الحرب اليمنية المنسية التي قتلت الآلاف من الأبرياء، ودمرت بلدا بكامله، وتهدد ملايين من الأطفال، بسبب الجوع وأمراض وأوبئة لم تعد موجودةً إلا في اليمن الذي كان "سعيداً"، لكنها تذكّرنا أيضا بالنهاية المأساوية لحاكم عربي آخر، هو ديكتاتور ليبيا السابق، معمر القدافي الذي قتله شعبه وسحل جثمانه، ومثّل به قبل أن يعرضه داخل مرأب كبير للزوار للتفرّج عليه.
كلاهما صالح والقذافي حكما بلديهما حكما مطلقا أربعة عقود، توفر لهما خلالها الاستقرار والمال والثروات التي كانت وما تزال تزخر بها أرض ليبيا واليمن، لكنهما انصرفا إلى بناء مجدهما وتوطيد سلطتهما، وتركيز حكمهما، حتى اعتقدا أنهما لم يعودا فقط ضروريين لحكم شعبيهما، وإنما خالدين في مناصبهما، حتى انقلب شعباهما ضدهما، فكانت عاقبتهما كما شاهدنا، مأساوية ومفجعة حد التقزّز والقرف.
هل كان صالح، وقبله القذافي، سيلقيان حتفهما بالطريقة المأساوية نفسها، لو كانا قد صرفا الثروة التي توفرت لبلديهما، والحكم الذي طال بين أيديهما، لتعليم شعبيهما وتثقيفهما وتنميتهما؟ إنهما، في نهاية المطاف، جنيا ما ظلا يزرعانه أربعة عقود من حكمٍ مطلقٍ بلا محاسبة، ولا رقابة، وكان طبيعيا أن تشبه نهايتهما القاسية سنوات حكمهما الأكثر قساوة على شعبيهما.
نهاية صالح المفزعة، وقبله مصير القذافي المروع، حدثان مخيفان يختزلان عقودا من الحكم 
المتسلط الدكتاتوري الذي كانت نهايته محسومة منذ البداية. إنها المأساة نفسها التي تتكرّر في كل بلد في المنطقة العربية التي أصيبت بوباء التسلط والسلطوية، فما يعيشه اليوم العراق وما تعانيه سورية هو نتيجة حكم سنوات من القهر والقمع التي صادرت إرادة الشعوب، وحرمتها من أبسط حقوقها في العيش الكريم. لذلك، لن تأتي بالحل طائرات السعودية والإمارات الحربية التي ظلت تدكّ شعب اليمن الأعزل الفقير ثلاث سنوات وما زالت.. كما لم تأت به طائرات حلف الناتو التي دمرت ليبيا وشردت شعبها ومزقت دولتها.. الحل في اليمن، كما في ليبيا والعراق وسورية، هو بيد شعوب المنطقة التي أجهضت ثوراتها، عندما خرجت قبل ست سنوات تطالب بالحرية والكرامة.
من قتل صالح، وقبله القذافي، هو من أجهض ثورات شعوب بلديهما. إنها المسؤولية نفسها تتحملها السعودية والإمارات ودول في الخليج، ساندتهما عندما قرّرا إجهاض ثورة شباب ميدان الستين في صنعاء، وأخرجت صالح المحروق منتصرا، وأعادته إلى اليمن معزّزا مكرّما بضماناتٍ مالية صرفت له من خزائن دول الخليج، وحصانة دولية موقعة من مجلس الأمن، تقيه شر كل محاسبة، أو متابعة قضائية له ولأفراد أسرته الذين ظلوا يتحكمون في الجيش والمخابرات، ويديرون الحكم من الخلف، في انتظار ساعة الصفر! وقبل ذلك في ليبيا، أخرج الغرب، وبدعم مالي خليجي، من تحت قبعة العقيد الليبي المقتول عقيداً آخر يشبهه، اسمه خليفة حفتر، لا يختلف عن سلفه في مغامراته ومزاجه الذي يحصد مئات الأرواح، كلما تقلب أو تعكّر.
إنها المأساة نفسها تتكرّر، والشعوب هي الضحية، لكنها لم تقل كلمتها الأخيرة، وحكم التاريخ سيكون حتما لصالحها متى منحت الفرصة لتقرير مصيرها.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).