بين البصلة وقشرتها

بين البصلة وقشرتها

01 يناير 2018

(حسين ماضي)

+ الخط -
هل يمكن تقبل نموذج صحفي منزوع الفضول، أو كاتبة قصة غير معنية بالآخرين، أو روائي مسكون بذاته لا يكترث بالاطلاع على تجارب روائيين آخرين؟ على الأغلب، الإجابة ستكون بالنفي، لأن صفة الفضول ملمح إنساني غريزي، يلازمنا منذ مرحلة مبكرة جدا، تصل إلى الأشهر الأولى من عمر الطفل. وهو دليل ذكاء وصحة نفسية ونمو عقلي ومهارة مسلكية واجتماعية. وهو جزء من تركيبتنا النفسية، وإن كانت متفاوته من شخص إلى آخر. والفضول من وجهة نظر علم النفس عاطفةٌ، تمثل تعطشّا للمعرفة، كما أنه قوة دافعة رئيسية للبحث واكتشاف المجهول، إذا ما تم توظيفه محفزّا للإنتاج الفكري والإبداعي الخلاق.
يقول مثل إنكليزي "الفضول قتل القطّة". ولهذا المثل أكثر من قصة، تفسر أصل الحكاية الأولى، تروي مغامرة قطة غلباوية صعدت إلى سقف البيت، أعجبها مشهد القمر، وهو مكتمل وساطع الضوء. وقرّرت أن تتسلق إليه، ففقدت توازنها وسقطت ميتة. الحكاية الثانية، وهي الأكثر ترجيحا، أن عالما مجنونا، وفضوليا إلى حد بعيد، قرّر إجراء تجربةٍ لمعرفة المدى الذي قد يصل إليه فضول القطط، فأحضر قطةً عاثرة الحظ، وحشرها في صندوق مغلق، بعد أن وضع عبوة ناسفة في الصندوق. بطبيعة الحال، وكما هو متوقع عبثت القطة بالعبوة، فانفجرت، وراحت القطة المسكينة ضحية فضولها.
ثمّة حكمة من موروثنا العربي، مشكوك في دوافعها كما أرى، تؤكد على أن من تدخّل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه. من هنا تبنت الشعوب العربية، في غالبيتها، وهي الوديعة المهذّبة حسنة السيرة والسلوك، عبر أجيال، "سياسة الحيط الحيط ويلا الستر" بمعنى إعفاء الذات من التورّط في الشأن العام، مهما بلغت أحوالنا من انحطاط وفساد وتردٍّ، كيلا نلقى مصيرا متربصّا لن يرضينا، وهو معروفٌ للجميع في ظل أنظمةٍ قائمةٍ على إرهاب الأفراد، ومصادرة حقهم في التعبير الحر.
يقول المثل الشامي "يا داخل بين البصلة وقشرتها ما بنوبك غير رائحتها". وهو أيضا ينطوي على تأكيد سياسة النأي بالنفس، وليس النأي عن النفس، كما ظل سعد الحريري يردّد من دون أن يصحّحه أحد ذات لحظة تلفزيونية مرتبكة..
أمثال وحكم وقصص تقوم، في جوهرها، على هجاء صفة الفضول، كونه جلابا للمتاعب ووجع الرأس ورائحة البصل النفّاذة. ويجري، في أحيان كثيرة، اتهام الشخص الفضولي السلبي بقلة التهذيب وعدم اللباقة. وهذا رأيٌ لا يخلو من وجاهة، سيما إذا تعدّى هذا الشخص الحدود، وانتهك خصوصية الأفراد، مثل من يسمح لنفسه بالتحديق الأبله في الآخرين، أو التطفّل على المشاركين والمشاركات في صفحات التواصل الاجتماعي، من دون أي هدف سوى الإزعاج والتعبير عن فراغ نفسي رهيب، وبلادة وقلة حساسية، وانعدام احترام الذات، لأن نموذجا كهذا سوف يتعرّض للتوبيخ الذي يستحق.
هناك من يرى النساء أكثر فضولا من الرجال، وهذا مفهوم تماما، ذلك أن المرأة بطبعها تنتبه إلى التفاصيل الصغيرة التي يغفل عنها الرجال في العادة، كما أن في وسعها القيام بأكثر من نشاط ذهني وبدني في الوقت نفسه، ما يفسح المجال لإشباع فضولها أمام ما يجري حولها من أحداث ومواقف. وهي شديدة الاكتراث والتعاطف مع الآخرين، ولن تتوانى أي سيدة عن التدخل بدون أدنى تفكير، وبشكل غريزي، لحماية طفل أو مظلوم يتعرّض للظلم والاضطهاد. وعلى الأرجح أنها سوف تتصل بالجهات الأمنية المختصة، إذا ما رأت مخالفةً ما، من دون أن تعبأ بوصفها بالفضولية، لأن للفضول جوانب مختلفة، قد تنقذ شخصاً من خطر محدق، وهي تظل مقبولة، بل ومطلوبة، طالما تمكنا من توظيفها إيجابياً، تنأى بنا عن التحشّر بالغير، والتطفّل على خصوصياتهم.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.