الإمارات وتونس.. والمعارك الهامشيّة

الإمارات وتونس.. والمعارك الهامشيّة

01 يناير 2018
+ الخط -
اتّخذت حكومةُ الإمارات قرارا يمنع التونسيّات من دخول أراضيها أو عبور مطاراتها، ولم تستثن إلّا من كانت حاملة جواز سفرٍ دبلوماسيّا أو إقامة دائمة، فشوّش هذا القرارُ حياة تونسيّاتٍ كثيرات كنّ على سفر في المطارات، ومنهنّ الزوجة المرافقة زوجها، والبنت المصاحبة أباها، والطالبة الذاهبة إلى جامعتها، والتاجرة الراكبة في تجارتها، والمرأة المريضة، والعجوز المسنّة. واكتفت السلطة الإماراتيّة بالمنع من غير تعليل ولا تحديد أجل، وتركت التونسيّات فريسةً للحيرة والانتظار وسوء الظنّ من الناس. وأثار القرار غضبا شعبيّا شديدا في تونس، فامتلأت صفحات التواصل الاجتماعيّ ولا سيّما "فيسبوك" بالتعليقات الرافضة له، وأصدرت مؤسّساتٌ وجمعيّاتٌ مدنيّةٌ وأحزابٌ سياسيّةٌ بياناتٍ تندّد بالقرار، وتتّهمه بالارتجال والتعسّف والعنصريّة وانتهاك حقوق التونسيّات. وتحرّكت الرئاسة والحكومة، وعبّرتا عن غضبهما بتعليقِ رحلات طيران الإمارات إلى تونس، ومطالبةِ أبوظبي باعتذار علنيّ.
كلّ ما جرى في هذا الموضوع معركةٌ هامشيّةٌ، حقيقتُها محاولةُ حكومة الإمارات إيذاء تونس وإخضاعها. وقد تكون لهذه المحاولة صلةٌ بمحاربة الإمارات الثورة التونسيّة، أو بمعارضتها التوافق المستمرّ بعد انتخابات 2014 التي دعمت فيها حزب نداء تونس، وقد تكون متعلّقة بموقف الحكومة التونسيّة من حصار قطر وحرصها على الحياد، وإن بدت في الواقع أقرب إلى الموقف القطريّ. فالإمارات تعتبر نفسها دولةً مؤثّرة قادرة على إخضاع الحكومات، ولا تُخفي عداوتها "ثورات الربيع العربيّ"، ولعلّها كانت تنتظر موقفا آخر من الحكومة التونسيّة في معاملة الإسلاميّين، أو في معالجة القضايا العربيّة، فأرادت الضغط عليها، لتَرْتَهِنَ قرَارَها السياسيّ، إلّا أنّها لم توفَّقْ فتذرّعت بالغاية الأمنيّة من القرار، ولم تجد ما تبرّر به تخصيص النساء فلزمت الصمت. ولم تنغمس الحكومة التونسيّة في التحريض، فاكتفتْ بإجراءٍ يدفعُ الابتزازَ، ويحفظ كرامة المرأة التونسيّة.

وأمّا غبارُ المعركة، فالحديثُ عن المعلومة الأمنيّة الداعية إلى منع التونسيّات من السفر، والحديثُ عن السيادة، والقولُ إنّ القرار الإماراتيّ كان ردّا على ترحيلِ تونس أربعةَ إماراتيّين كانوا يصطادون الحبارى (وهو طائر محميّ) في الجنوب التونسيّ، وفخرُ الإماراتيّين بمالهم ونفطهم، واستعلاءُ التونسيّين بثقافتهم وحداثتهم. وأكثر ما يُستغرب في هذه الخصومة انهماكُ الشعبين، التونسيّ والإماراتيّ، في التَّشاتُمِ والمُسابَّةِ، واستعمال كلّ فريق معجما خاصّا هو الأقدر في اعتباره على الإيذاء والإهانة. ومن تصفّح "فيسبوك" و"تويتر" وجد أنّ التونسيّين عند الإماراتيّين كلابٌ نابحة، وإرهابيّون دواعش حِرْفَتُهم تفجيرُ أنفسهم وقتلُ الناس، وكان عليهم أن يمنعوا مرضاهم من مغادرة بلدهم، لِئَلّا ينتشر طاعون الإرهاب في الدول؛ وهم بلا أخلاق ولا عقل، ولا يُحسنون الكتابة بالعربيّة، فيكتبون بلهجتهم كلاما يبعث على الضحك. وأمّا مسألة منع التونسيّات من السفر فمشكلة تونسيّة خالصة، يثيرها الإعلام التونسيّ القذر.
والإماراتيّون بنظر التونسيّين، يظنّون أنّ التطوّر أبراجٌ ومدنٌ حديثةٌ، ويجهلون أنّ التطوّرَ الحقيقيّ تطوّرُ الفكر، ولا يساهمون في بناء مدنهم، ويكتفون بتوظيف الأجانب. والإماراتُ دويلةٌ نشأت في السبعينيات، وأكثرُ سكّانها من المقيمين، ولا تزيد نسبة الإماراتيّين فيها على 16%.
أما تونس فلها تاريخ يزيد على ثلاثة آلاف سنة، وفيها وُجدت أوّل جمهوريّة في الأرض، وفيها كُتب أوّل دستور في العالم، وفيها نشأ كثير من مظاهر المدنيّة الإنسانيّة (يعدّدها صاحب التعليق). وعندما كان الإماراتيّون يعيشون كالأنعام، كانت تونس تصنع السفن الحربيّة، وكانت أعظمَ قوّة بَحْريّة في العالم. وعندما كان الإماراتيّون يئدون البنات كانت امرأةٌ عظيمةٌ تحكم تونس.
ولا تَغْفُلُ التعليقات عن دعوة التونسيّين المقيمين في الخليج إلى مقاطعة كلّ ما هو إماراتيّ، لأنّ القرار أهان أمّهاتِهم وأخواتِهم وبناتِهم ونساءَهم؛ ولا تخلو من سخرية مزدوجة، من صورها القولُ إنّ دولة الإمارات (1971) أصغر من رئيس الجمهوريّة التونسيّة (ولد سنة 1926).
تدور تعليقات الإماراتيّين على أفكار نمطيّة هي جهلُ التونسيّين بالعربيّة، وانحلالُ أخلاقهم، وانتماءُ كثيرين منهم إلى "داعش". وهذه تهم مؤسّسة على اعتقاد طهوريّة النفس، وهي طهوريّة جمعيّة متخيّلة، يمتلئُ الواقع بأضدادها. ويبدو من تعليقات التونسيّين أنّهم انْتَقَوْا من التعريف بالإمارات ما يساعدهم على النيل من تاريخها وشعبها؛ وحرّكتهم في ردودهم نرجسيّةٌ مغاربيّةٌ موروثةٌ عن التفاضل القديم بين المشارقة والمغاربة، موجَّهةٌ بفكرة نمطيّة، هي أنّ المغاربة أكبرُ عقولا وأغزرُ علوما؛ وفَخَرُوا بثورتهم ودخولهم "النادي الديمقراطيّ"؛ واعتبروا الإماراتيّين رعايا من زمنٍ سحيقٍ، لا يحقّ لهم التطاول على المواطنين الأحرار. وإذا أسقطنا كلماتِ الفحش وعباراتِ النرجسيّة ومبالغاتِ الخصومة، بقي من تعليقات الإماراتيّين اتّهامُ التونسيّين بالتطرّف وانحلال الأخلاق. ويقابل هذا الاتهامَ في المسكوت عنه اتّصافُ الإماراتيّين بالاعتدال والعفّة والاستقامة. وبقي من تعليقات التونسيّين التباهي بالتاريخ العريق (وهو فخرٌ غير مُنتجٍ في الخطاب اليوميّ) والتعاظمُ بالثورة، فقد أصبحت الثورة في وعي الناس إنجازًا تاريخيّا يساوي الاستقلال، وقيمةً جامعةً تشتمل على قيم الشجاعة والبطولة والنجدة والتحرّر، ومرتبةً يحدّد بلوغُها شرفَ الإنسان وإنسانيَّتَه. وهذا الوعي الذي يعبّر عنه التونسيّون بعباراتٍ تختلف باختلاف تحصيلهم العلميّ، وانتمائهم الاجتماعيّ، هو الذي يقلق أنظمةً ما زالت تقيس قوّتَها بقدرتها على مصادرة العقول.

وأضرُّ ما في طقوس التَّشاتُمِ ثلاثة أمور: أوّلها أنّ المتشاتمين يُغفلون أصل الخلاف، وهو صراعُ مصالح الدول، وتنافسُ الأنظمة، واختلافُها في مقاربة القضايا العربيّة والإقليميّة. ويشتغلون بالسبّ والشتم، ويتقاذفون بفاحش الكلام، فلا تُنتج خصومتُهم وردودُهم رأيًا نافعًا، ولا يزداد متعاطي الشتم إلّا بعدًا مِنَ الصواب، وإيغالًا في العنصريّة، وامتلاءً بالحقد والضغينة. والأمر الثاني أنّ المندفعين إلى الذود عن بلدانهم ينْسَوْن أنّ الأنظمة تتلاعب بهم، وأنّ النظام المستبدّ لا يبحث عن شعبٍ يدافع عنه، فهو يملك مؤسّسات وأجهزة وأسلحة تحميه. والوضعُ الطبيعيُّ أن يجتمع الشعبان على حمايةِ الحقوق والحريّات، ومراقبةِ النظام السياسيّ ومحاسبتِه، ومنْعِه من التلاعب بالعقول واستهلاكِ طاقات الشعوب في معاركه الهامشيّة. والأمر الثالث أنّ من أكبر مظاهر الخلل في حياتنا السياسيّة العربيّة وجودُ أنظمةٍ تقتات من استثمار العداوة المتخيَّلة، فتُقْنع طائفة من الشعب بوجودها، وتُضَرِّمُها بالشائعاتِ والتحريضِ على الكره والتباغض وادّعاءِ حماية السيادة الوطنيّة. فتبدّد مواردها في الخصومات العقيمة، وتُنهك شعوبها بالمعارك الهامشيّة، "ومَنْ لم يَرَ باطنًا يعِشْ واهِنًا".

دلالات

A614EF74-C1F1-4E15-90EC-0B94242176DA
عبدالله جنوف

أستاذ بالجامعة التونسيّة. متخصّص في الإسلاميّات.