يا طيب القلب يا قلبي

يا طيب القلب يا قلبي

31 ديسمبر 2017
+ الخط -
بالتَزَامُن مع صدور كتابي "تجربتي في الثورة السورية" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الذي رَوَيْتُ فيه وقائع ميدانية عشتُها في إدلب ومعرتمصرين وحزانو وبنِّشْ وحلب بين مارس/ آذار 2011 وأغسطس/ آب 2012، ذَكَّرَني ابنُ بلدي العزيز، علي الشلبَّة، بحادثة صغيرة لم يردْ ذكرُها في الكتاب، وهي أننا كنا، في أحد الأيام، نشارك في مظاهرة ضد نظام بيت الأسد في معرتمصرين، وتَدَخَّلَ واحدٌ من أبناء البلد الطيبين، وسألني، (متوهماً أنني شخصية كبيرة): بأيش تنصحنا يو خاي أبو مرداس؟ فقلت له: ما بحب النصائح، ولكن، على كل حال أنصح بأن نحب بعضنا بعضا.
لن أتفاخر بأنني، مثل أهل أبي وأمي، طيبُ القلب، فالطيبة تكون، في أحيان كثيرة، موضعاً للسخرية، والإنسانُ الطيب يوصف بأنه طيّوب، ودرويش، وآدمي، ومسكين، وأحياناً "تشتوش".. وإذا كانت له كلمة مسموعة، فإن طيبته تصبح موضعاً للعتب، واللوم، والتندّر، ففي أيام الثورة، مثلاً، وأنا في موضع القيادة، كنتُ أحاور الآخرين، وأتفهم ظروفهم ومشكلاتهم، ولا أقبل من زملائي الثوار بأي موقفٍ ذي طبيعة استعلائية على الناس، كأن يُقال، باستخفاف، هذا من بيت فلان، وذاك من بيت علان، وأنفر من الأحاديث والمواقف ذات الطبيعة المذهبية، كالقول إن فلاناً سني، وعلاناً شيعي، وفليتاناً درزي،.. فكانت طبيعتي هذه مدعاة لما كان يقوله لي أبو حسن، حينما كنا نلتقي، بعد النزوح، في مدينة الريحانية التركية: والله، يا عمي خطيب، الشيء الوحيد الذي خرّب بيتنا وحَطّنا في آخر الناس هو "طيبة قلبك".
وكنتُ أضحكُ من استنتاجات أبي حسن، فأنا أعرف، بل ومتأكّد، أنه أكثر طيبةً مني، وإن كنتُ قد تعلمتُ، خلال السنوات الستين من عمري، شيئاً من المقدرة على امتصاص الصدمات، والسكوت حينما تتوفر لدي رغبة عارمة في الكلام، وإخفاء الحقيقة في بعض المواقف، والكذب والمراوغة في مواقف أخرى، إلا أن أبا حسن مادة إنسانية خام، متحمسٌ للثورة إلى درجة أنه يسبّ شخصاً ما، وجهاً لوجه، ويباشر بضربه فيما لو شَكَّ، مجرد شك، بأنه ضد الثورة، أو: مع الثورة ولكنه انتهازي.
ذات مرة حضر أبو حسن لزيارتنا في البيت الشبيه بقن الدجاج الذي كنا نسكنه، أنا وصديقي المحامي صلاح شامية، في الريحانية، وينام معنا، في كل ليلة، أكثر من عشرة شبان من أبناء البلد الذين يأتون إلى الريحانية، ولا يجدون مكاناً ينامون فيه، وقال لي، متحدّثاً باللهجة المصرية التي يستخدمها، حينما يريد أن يخلط الجدبنة بالشيطنة: بَقُول أيه عمي أبو المراديس؟ سمعتهم فـ نشرات الأخبار بيقولوا إن عدد اللاجئين وصل دلوقتي لمية وخمسين ألف لاجئ، وبيقولوا كمان إن المجتمع الدولة حَ يْسَقَّطْ ابن حافظ الأسد خلاص لما يبلغ عدد اللاجئين ميتين ألف. تقول إيه بقى؟ سألتُه ملاعباً إياه باستخدام اللهجة المصرية: أقول إيه فـ إيه يا سي أبو حسن؟ قال لي: بقول يعني لو تضبوا حاجاتكم، أنت وعمي أبو مراد، ونضب كلاكيشنا أنا والشباب اللي بيناموا عندي في بيتنا الصُغَيّرْ، ونروح نسكن في المخيم، لأن مؤسسة اللاجئين دلوقتي ما بتحسبش اللي ساكنين في البيوت زينا لاجئين، وبعدها نعمل إيه؟ كلما نشوف حد من ولاد بلدنا الجدعان ساكن هنا، نجيبه عندنا المخيم، بلكي بقى نْسَقَّطْ الأسد والهَلُمَّة المستبدة اللي تمشي معاه.
مضت خمس سنوات، بالتمام والكمال، على هذه الحوادث الصغيرة، وابن حافظ الأسد أنجز القسم الأكبر من عملية تدمير سورية، واستقدم دول العالم لاحتلال ما تشاء من أراضٍ سورية، وأصبح عدد القتلى واللاجئين يعد بالملايين، لا بالآلاف، وصار عندنا شبيحة، ومنحبكجية، ورؤساء عصابات تهريب، وأمراء حرب، ومشايخ، ووعاظ، وهرمنا... وما زال قلبنا الطيب ينتظر أن تحصل معجزةٌ ما، وتنتهي مأساة هذا الشعب الطيب.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...