حزب "خضرنا" والقدس وعيد الشجرة

حزب "خضرنا" والقدس وعيد الشجرة

30 ديسمبر 2017

عرب في برلين يرفضون قرار ترامب بشأن القدس (15/12/2017/Getty)

+ الخط -
صار من نافل القول إن الحرب أثّرت كثيرًا على البيئة، وهدّدت الكائنات الحية كافة فيها، براً وبحراً وسماءً، ودمّرت بيئاتٍ حيويةً طبيعيةً للحيوانات والأصول الوراثية، وتعرّضت التربة للانجراف، بسبب حرائق الغابات التي صار منظر أشجارها المتفحمة يدفع الروح إلى أقاصي البكاء. وتسمّمت التربة الزراعية، نتيجة استخدام المتفجرات، وتدمير آبار نفط أو استثمارها من الفصائل التي سيطرت عليها بطريقة بدائية، تقتل الحياة من أجل المال، إضافة إلى تلوث المياه. ومن نافل القول أيضًا إننا فقدنا بالتدريج اهتمامنا واكتراثنا ببيئتنا في كل أنماطها منذ قبل السنوات العجاف هذه التي مرّت عليها. منذ بدأ الوعي العام يُصاغ بتوجيه سياسي وديني، وصارت الطبيعة والأرض والشجر والماء والهواء والوطن كلها كلماتٍ، يردّدها الأطفال منذ بداية تشكل وعيهم، فارغةٍ من المعنى والمدلول. صارت مثل الشعارات الصباحية في أيام المدارس: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وأهدافنا وحدة حرية اشتراكية، وقائدنا إلى الأبد. ثم بعدها أمة إسلامية وأرض الرباط والجهاد وغيرها، ولم يبقَ لدينا غير أشجار الأنساب نتقاتل فيما بيننا بسببها، بينما الأرض تُحرق، والآمنون يقتلون ويهجرون ويتوهون في الأصقاع، ليصبح جزء كبير من الشعب السوري خارج أرضه، يُسمّى لاجئًا، وصار اللجوء قضيةً تختلف حولها الشعوب والحكومات، وصارت كلمة لاجئ تعني: سوري. فقد السوري هويته الأساس، وفقد لقبه الذي يحيله إلى وطن، صار اسم السوريين في الخارج لاجئين.
لم يكن لدينا، كما ألمانيا، حزب الخضر، ليأخذ على عاتقه حماية الوعي بالبيئة الحيوية، وبقيم السلام والأخوّة ومبادئ العيش السليم والتعدّد الثقافي، وأن الوطن ملكية لجميع أبنائه، له استحقاقات، مثلما لأبنائه واجبات. كانت الحالة تُعاش بعفويةٍ وصدقٍ وإيمان وقيمة أخلاقية، قبل أن يصادر الحكم حزبٌ أتى على الأخضر واليابس، وصارت حكمة اليوم "ازرع ولا تقطع" نروّس بها صفحات واجباتنا المدرسية فقط. ومثلما تعيدني الذاكرة إلى قصيدةٍ كتبها لي والدي لأقرأها في احتفال المدرسة، بعيد الشجرة: سأزرع حول منزلنا من التفاح أشهاه.. وبعض براعم الليمون تؤنسه وترعاه، تذكّرني أيضًا بأن فلسطين قضيتنا الأولى، وأن القدس "عروس عروبتنا". وكنا صغارًا وكبارًا نغني لأجلك يا مدينة السلام أصلي، مثلما نساهم في زراعة
غرساتٍ في عيد الشجرة الذي يصادف في الخميس الأخير من ديسمبر/ كانون الأول. ولم تكن عملية الزراعة والتحريج هذه من منجزات حزب البعث، أو الحركة التصحيحية التي يُنسب إليها كل معجزات سورية الحديثة والمعاصرة، بل منذ عام 1953. اتبع هذا الإجراء رسميًا بقصد إنشاء غابات وزيادة المساحة الخضراء في مناطق كثيرة على امتداد سورية. ولأن سورية تنتمي إلى بيئة متوسطية، حبتها الطبيعة بها، فصارت بحكمها وحكم موقعها لعنة عليها، فإن الغابات السورية موطن لأصول شجرية كثيرة: السنديان. البطم. الحور. الصفصاف. اللزاب. الصنوبر. السرو. الشوح. الأرز. الخرنوب. الزعرور. .. إلخ. وهناك محميات طبيعية عديدة، ومروج ونباتات برية شاع استخدامها شعبيًا لعلاج أمراض عديدة، كما أنها كانت توفر فرص عمل لشريحة من السكان بجمعها لصالح الشركات الصيدلانية أو للعطارين، كالميرمية والزعتر البري والسنامكّي والبابونج وغيرها كثير.
وتصدمني البيئة، كما يصدمني الوعي بها في ألمانيا التي استقبلت أكبر عدد من اللاجئين الهاربين من جحيم الحرب، وانتهاك بيئتهم وحياتهم في سورية، فالوعي البيئي أحد عناصر المنظومة القيمية العامة للشعب، وطريقة التعامل مع البيئة، انطلاقًا من أدق تفاصيل الحياة، ليس فقط فرز النفايات، وتدوير ما يُدوّر منها، والتخلص من الباقي بطريقة أقل ضررًا للبيئة، بل ترشيد الاستهلاك، فكل قطعة أثاثٍ مصنوعة من الخشب يُعاد تأهيلها من أجل الاستفادة منها، لأنها توفر شجرةً في غابة، وكل تفاحة تُرمى تعني هدر سبعين ليترًا من الماء، وأوراق الخريف تُجمع للإفادة منها في السماد الطبيعي، وغيرها كثير. وليست هذه الثقافة فضيلة حزب الخضر وحده، بل هي حصيلة تجربة تاريخية ووعي بها، على الرغم من أن حزب الخضر الذي تعود نشأته إلى السبعينات من القرن العشرين ولد من حركةٍ اجتماعيةٍ معارضةٍ للمؤسسة السياسية الألمانية، وتداعيات سباق التسلح بين القطبين، الشيوعي والرأسمالي. وقد تعزّز موقعه على ضوء الوعي البيئي الذي انتشر بين شرائح المجتمع، بسبب مخاوف الناخبين الألمان من الأخطار البيئية التي تهدّد مستقبل الحياة البشرية. تشكل إذن الوعي بالفكرة أولاً، ثم جرى ترتيب الصفوف وتنظيمها، وتشكيل حزبٍ يقود هذا الوعي.
انتقد رئيس حزب الخضر الألماني، جيم أوزديمير، بشدة قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل، قائلاً: "إنه يحفر في أحد أعمق الجروح في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني"، لكن تصريحاته بعد التظاهرات التي شهدتها برلين رفضًا للقرار أثارت جدالاً حاميًا بين المهاجرين واللاجئين عمومًا، عندما قال إن حق إسرائيل في الوجود من المصلحة الوطنية للدولة الألمانية، وإنه يأمل في أن يشارك المهاجرون في هذه المصلحة بشكل مطلق. اعتبر تصريحه تناقضًا سافرًا في توجهات الحزب ومبادئه، وهو الحزب الذي من ضمن سياساته دعم التعدّد الثقافي في المجتمع الألماني، وتسهيل تجنيس الأجانب، وقد رفض رئيس الحزب نفسه في يناير/ كانون الثاني 2015، إجراء حوار مع حركة بيجيدا، المعادية للإسلام والمسلمين، وقال "هناك خطوط حمراء، عندما يتعلق الأمر بالمبادئ الأساسية لبلادنا"، معتبرًا أن الحركة لا تمثل ألمانيا و"أن التعصّب لا يمكن مكافحته بتعصب آخر".
فلماذا يُطالب العربُ الآخرين بموقفٍ ليسوا هم أنفسهم قادرين على اتخاذه؟ حتى على مستوى المظاهرة في برلين، كانت هناك شعارات عنصرية ضد اليهود من قبيل: "حماس حماس، اليهود عالغاز" و"خبير خَيْبَر يا يهود، جيش محمد سوف يعود". هل بهذه الشعارات يتم القضاء على الدولة العنصرية، إسرائيل، التي اعترف العرب أنفسهم بها، حتى السلطة الفلسطينية لا تنكر حقها في الوجود؟

يمثل حزب الخضر شريحةً من الشعب الألماني، وبالتالي هو حريص على المصلحة الوطنية الألمانية، وهو عندما دخل المعترك السياسي، وصار له ممثلون في البرلمان، وعليه أن ينخرط في الحراك السياسي لبلده، وفرض واقع العمل السياسي إملاءته وبراغماتيته على أدائه وتعاطيه مع التحدّيات السياسية، ولديه قاعدة شعبية هي المخولة بإدانته ونقد أدائه ومحاسبته، وليس اللاجئين.
لم يعلن ترامب قراره الجريء هذا لولا صمت الأنظمة العربية، وتواطؤ بعضها، بل لا يمكن عزل ما يحدث في المنطقة عن التفريط بالقدس، وبكثير من طموحات شعوبها وحقوقهم، ليس فقط في سورية وبلدان ما سمي الربيع العربي، بل في السعودية والقنابل التي يفجرها ولي عهدها المرتمي في أحضان أميركا وصهر ترامب، بعلاقة كتبت عنها "الغارديان": إن الثنائي ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وصهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب وكبير مستشاريه، جاريد كوشنير، يشكلان مزيجًا خطيرًا. لا عجب من هذا الوصف، فالأحداث الخارقة حدثت بتسارع بعد زيارة ترامب وعائلته وصهره السعودية في مايو/ أيار الماضي، مقابل صمت محلي وعربي، فأين الغرابة في التنازل عن القدس؟ إنه تحصيل حاصل لسياسة الخنوع والتابعية.
ما جمعته أميركا وما تجمعه وستجمعه من مال سلطاتٍ وأنظمةٍ عربيةٍ تدّعي محاربة الفساد، وتطرح نوايا الإصلاح في بلدانها، بينما هي تنهب شعوبها، كفيل بإحياء منظومة بيئية عربية قادرة على التحدّي في وجه الطغيان العالمي، وأن يكون لها حزبها الأخضر، أو حزب خضرها القائم على المبادئ الإنسانية، وسوف يرفع شعار المصالح الوطنية، ومنها القدس ويدافع عنها، ولن يلومه أحدٌ عليها.