حديث الروح

حديث الروح

28 ديسمبر 2017

(ريما سلمون)

+ الخط -
إلى همام ونور
عبر الهاتف، بدا صوته ضعيفاً، كأن المسافات البعيدة أتعبته. "خير... ماذا أصابكَ"؟ أسأله "هل من خطب؟ هل أنت بخير؟ والأولاد؟ والعائلة"؟ "كلهم بخير"، يجيب، ويتابع "أنا محبط .. حزين"... ألحّ عليه ليفصِّل لي من بعيد، هو العائش في أقوى دول العالم، الناجح في عمله... وبعد برهة، في محاولةٍ ربما لصياغة فكرته، يجيب أن المشكلة التي تسوِّد حياته ومزاجه هي الأوضاع العامة في الكوكب الأرضي كله، جنون الحروب والتفاوتات الخارقة والتغيرات المخيفة... و"منطقتنا" يضيف "من بعيد، أراها هي التي تدفع أغلى الثمن. انظري إلى مدننا وقرانا، المدمَّرة الموحِشة، وناسها الهائمين على وجوههم". ويتابع راسماً لوحة أبوكاليبتية، شبيهة نهاية العالم. وطوال حديثه، المتقطِّع بسبب القطع المستمر لخطوط الإنترنت، أجد نفسي مهيأة للرد عليه، ولكنه لا يدعني، يتابع، بحماسة الذي يريد أن يزيد من جرعة تعاسته، أو أن يبرّر لنفسه كل هذه التعاسة، كل هذا التعكّر الذي أصاب هناءه من الصميم.
وأنا، لأنني أحبه، وكأنني مسؤولة عن سعادته، أضع نفسي مكان محامي الشيطان. أترقّب لحظةً يأخذ فيها نفّسا، يحتاج إليه بعد تعب حنجرته، لأردّ عليه بالتخفيف من هوله، وبـ"نظريتي" التي حفظها، حول الفصل بين السعادة الشخصية والسعادة العامة. من تهذيبه يتركني أتلو مقدمتها، وبعد حين، بعد صبر يعدّه طويلاً، يقطع كلامي، "أعرف... أعرف بقية النظرية. حفظتها غيباً. ولكنها لم تَعُد تنفع معي. لم تَعُد مقنعة، حتى لو كانت "إجرائية"، كما تردّدين".

أحاول اختراع ضحكةٍ أو نكتة، تخفّف من شحنة تعاسته. لكنه يتوتر، يعيد تذكيري بـ"نظريتي" التي يصفها بـ"البائخة". ثم ينطلق، فيرد عليّ مطولاً؛ ينتقل من أميركا إلى تقليب مواجعي أنا، الساكنة في بيروت، فيعمد إلى وصف حياتي هنا، أو بالأحرى يومياتي: "انظري إلى نفسك، أنتِ الباحثة الدائمة عن فرحةٍ ما. كيف تجدينها وسط المماحكة اليومية مع الكهرباء، كم مرة علقتِ في المصعد وكدتِ ان تختنقي؟ وطار عقلك من مكانه؟ تصرخين من قرعة رأسك، مثل المجانين.. كم سنة خسرتِ من حياتك في تلك العلْقة وما يشبهها..؟ والماء، إذا جاءت بقدرة قادر، تكون مالحةً، فيها رمل تنبعث منها الروائح الكريهة...؟ والزحمة التي تمنعك من الخروج، ورائحة المازوت التي تبلغ غرفة نومك، حيث تسكنين في الأعالي، عندما تنقطع الكهرباء وتشتغل المولّدات الأربعة الضخمة المسوِّرة لعمارتك؟ تريدين المزيد؟ الأعمق؟ الأفدح؟ حسناً... ماذا يمكنك ان تفعلي إزاء الكبائر؟ ثم الكذب و"التغطيات" على الكذب، والفساد، والطائفية والمذهبية.. تريدين أن تقولي إن الإحباط لم يصبك أنتِ، لم يصب كل مواطن مقيم على أرض لبنان"؟ أتعثر قليلاً للإجابة، أشعر بأنه يريد أن يهبِّط عليّ الحيطان. وأكثر ما يزعجني قوله إنه، هو المقيم في أميركا، يستطيع أن يرى مجمل اللوحة، وكل تفاعلاتها، وحالتنا نحن، داخل هذه اللوحة، قياساً إلى بقية الأمم... "أنتِ قريبة من المأساة.. قريبة جداً. لا تشعرين بأذاها".. متابعا على المنوال نفسه.
أتلعثم، أحاول إيجاد حججٍ جديدة. لا تنفع. صوتي الداخلي يهمس لي أن هذه الحجج مرتبكة أصلا، فكيف لي أن أنقلها؟ أن أصيغها؟ وسط هذا الاضطراب، تهزل "نظريتي"؛ يحتبس كلامي، وأبدأ بالتأتأة. فلا أجد أمامي، لتلوين فضائه، غير الموعظة، وكلماتٍ أشعر أنها فارغة. لم يعُد يهمّني العقل والأخذ والرد، صار كل همي تعبئة الهواء بالكليشهات. ولكن لحظة. أنتبه إلى نفسي. كأنني كنتُ مؤمنة بالله، وجاء من يشكّك بإيماني... رحتُ معه إلى أبعد حدود الشك، ودخلت مطهراً، قد لا أدوم فيه قبل أن يفضي بي إلى الجحيم. ماذا دهاني؟ أتركه يتابع سرد مأساتي كمواطنة، محاولا ربطها بحياتي "الشخصية" التي يسخر من بهجتها، فيسألني باستفزاز: "وبعد كل ذلك تريدين أن تقنعيني بأنك سعيدة فعلاً"؟ آخر رصاصة من ذخيرتي، أطلقها، أملاً... أملاً بماذا؟ أردّ عليه بأن نعم أنا سعيدة لأن هناك سقفاً فوق رأسي، وأربع حيطان تأويني، ولستُ نازحة، أو تائهة في الطريق، أبحث عن مأوى. "هذه سعادة أنانية وقصيرة النظر"، يجيبني بغيظ. "ألم تفكري لحظة أن سعادتك هذه غير أخلاقية، تتغذّى بمشهد بؤس قريب؟ ثم افترضي مثلا أنك أنتِ أيضا فقدتِ بيتك وتشردتِ.. هل تبقين سعيدة كما تدّعين"؟
هنا، في وسعي القول إنه نال من "نظريتي" الجاهزة، وحرَّضني على مزيد من التفكير فيها. بالأصل، ما الذي يدفعني إلى التمسّك بالسعادة، على الرغم من كل المصائب التي حولي؟ وعلى الرغم من الشظايا التي تصيبني منها؟ وبمجرّد التساؤل، يتبين لي أن السعادة عندي فعل إرادي، ضد حزني الموروث. كانت حوافزه بالأمس غير واعية، وطفحت الآن على وعيي. أحب
السعادة، بل أنا شغوفة بها. كما يشغف غيري بأشياء أخرى من الحياة. إذن، هو فعل إرادي. ليس أوتوماتيكيا.. إنما يأتي، كالسعي، بالتراكم، بالتجارب المخيبة قبل الناجحة. تجاربي وتجارب أقرب المقربين إليّ. وربما لكي أحمي هذا الشغف الذي تراجع أمام ضربات الجزاء، عليّ أن أضيف إليه بضعة ملحقات، غير نهائية. فإلى صديقي العزيز:
السعادة مؤقتة، دائما مؤقتة، تحمل نقيضها في داخلها. قد يكون الموضوع الذي راهنتَ عليه من أجل إفراحكَ، قد زال أو انكسر، مثل قصة حب أو ثورة، أو أقل منهما درجة، رياح بحرية شمالية، أو أضواء فجر خريفي... عليك أن تتوقع ذلك، ولا تخفْ. هذا هو قانونها. أما ما تتعايش معه السعادة، كالبؤس والحسرة بأشكالهما، فهو مرتبط عضوياً بالسعادة. لا سعادة من دون نقيضها، من دون شياطين التعاسة. بل إن الذي يقوِّي السعادة نفسها هو قرينها، التعاسة. السعادة المقترنة باليأس هي الأكثر ديمومة، الأكثر تحصيناً. وهذه أيضاً تعزّزها تجاربكَ. لا تنتظر من "الظروف العامة" شيئاً، ولكن استمر بالأمل بأنها قد تتغير. لا تؤمن إيمانا سطحيا بفكرة التقدّم. لا تتوهم مثلاً بأن غدك سيكون أفضل، ولكن استمر برفع صخرتك إلى فوق، ولا تفعل ذلك إلا والابتسامة على وجهكَ، فالابتسامة ولادة. وقد تصل بالصخرة إلى نصف الطريق، وقد لا تصل. لا تقلق. ولا تخف سعادتك بحزنك. وانتبه جيداً، فطريق السعادة ملغومٌ بشكوكٍ قد تطيح سلامتها.

دلالات