فلسطينيو لبنان وتابو الأرقام

فلسطينيو لبنان وتابو الأرقام

26 ديسمبر 2017
+ الخط -
ما كان يعتبر "محرّماً"، وخاضعا لكل أنواع المزايدة والتوظيف والاستغلال والتعمية، وبالتالي الابتزاز والديماغوجية والعنصرية، أصبح اليوم رقما حقيقيا يعيد الحق والأهلية إلى أصحابه. فقد أعلن لبنان الرسمي، لأول مرة، وسط ذهول كثيرين، أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات والتجمعات الفلسطينية بلغ "فقط" 174.422 فردا خلال عام 2017 يعيشون في 12 مخيما و156 تجمعا فلسطينيا في المحافظات الخمس في لبنان.
ليس نصف مليون ولا أربعمائة ألف، كما كان يشاع. أرقام انحسرت منذ زمن. صار لعدد الفلسطينيين في لبنان رقم علمي، لا يحتمل الاجتهاد والتقدير، ولم يعد ممكنا إقحامه في بازار السياسة الداخلية، والبناء عليه موجات من العنصرية والتخويف. 174 ألفا و422 فلسطينيا هو عدد المقيمين في لبنان. هو ليس إحصاءً يستند الى عينات، إنه تعداد شامل، لم تتجاوز فيه نسب عدم التجاوب ونقص الشمول 5,6%.
لمرّةٍ تصادق لبنان مع الأرقام، وكشف، في حفل أقيم في السراي الحكومي في بيروت، رعاه رئيس الحكومة سعد الحريري، نتائج التعداد العام للسكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان، نظمته اللجنة العليا للحوار اللبناني الفلسطيني، بالشراكة مع إدارة الإحصاء المركزي اللبناني والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. جهد يفترض أنه يتمتع بالجدّية والمصداقية، رعاه دكتور في علم الاجتماع ووزير تربية سابق، هو حسن منيمنه الذي يرأس اللجنة. خطوة هي الأولى من نوعها تتناول ملفا في منتهى الحساسية السياسية والديمغرافية والطائفية والجيوسياسية.
ولمرةٍ تجاوز لبنان انقساماته بشأن ملفٍ يطاول الفلسطينيين، تارة بسبب الأحكام المسبقة، وطورا بحكم المخاوف المتبادلة. وجاءت الأرقام لتفتح باب النقاش على قضايا تحتاج إلى توافقاتٍ جديدةٍ، تسقط الهواجس المضخمة، والمثقلة بتجارب الماضي المؤلمة، من حق العمل إلى حق إعطاء الأم جنسيتها لأبنائها، مرورا برزمة حقوق اجتماعية وإنسانية غير متاحة. باختصار، حق العيش بكرامة.

وفي الأرقام، أظهرت نتائج التعداد أن حوالي 45% من اللاجئين الفلسطينيين يقيمون في المخيمات و55% منهم يعيشون في التجمعات الفلسطينية والمناطق المحاذية. ولمنطقة صيدا الحصة الأكبر، ففيها يقيم 35.8% من الفلسطينيين، تليها منطقة الشمال وفيها 25.1%. وتبلغ النسبة في منطقة صور 14.7%. في بيروت 13.4%. وفي الشوف 7.1% وفي البقاع 4%.
وأظهرت النتائج أن هناك تغيرا في التركيبة الديمغرافية للسكان في المخيمات، ففي بعض المخيمات يفوق عدد غير الفلسطينيين على عدد اللاجئين الفلسطينيين أنفسهم، كما في مخيم شاتيلا مثلا. ففيه 7,57% من النازحين السوريين، مقارنة مع 7,29% من اللاجئين الفلسطينيين. كما بلغت نسبة النازحين في مخيم برج البراجنة 9,47% مقارنة مع 8,44% من اللاجئين الفلسطينيين. وفي مخيم مار إلياس، تبين أنه يوجد 39% نازحون سوريون، وفي مخيم البداوي 4,34%. وبينت النتائج أن الفلسطينيين في المخيمات يشكلون حوالي 72.8%، منهم 4,65% من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان و4,7% من النازحين الفلسطينيين من سورية، كما تبين أن حوالي 4.9% من اللاجئين الفلسطينيين يملكون جنسية غير الجنسية الفلسطينية.
وبحسب الدراسة، بلغت نسبة الأمية بين اللاجئين الفلسطينيين 7.2%، وبلغ حجم القوة العاملة بينهم 51393 فردا. أما نسبة البطالة فتصل إلى 18.4%. وأفادت البيانات بأن عدد الأسر الفلسطينية في المخيمات والتجمعات بلغ 52,147 أسرة، منهم 2,7% لفلسطينيين متزوجين من لبنانيات، و4,2% للبنانيين متزوجين من فلسطينيات.
دراسة فيها من الجرأة العلمية والإحصائية والسياسية ما دفع أكثر من طرف إلى طرح أكثر من تساؤل عن مدى جديتها والخلفيات والهدف منها، فلا شيء في لبنان ما بعد الحرب مجاني أو أهدافه نبيلة، أو لا يصبّ في خدمة خطة معينة، أو طرف سياسي أو طائفي معين، أو حتى موحى به من دولة خارجية. فهل وراء الأكمة ما وراءها؟ علما أن آخر إحصاء وتعداد سكاني جرى في لبنان للبنانيين يعود إلى عام 1932، فالإحصاء السكاني (أي الطائفي والمذهبي) في لبنان "تابو" من المحرّمات التي تبقي الأمور مجهولة، غامضة، معلقة وعائمة، تجعل كل طرفٍ يعتقد أو يتأمل أنه أصبح أكثرية، أو أنه ما زال يتقدم على الطرف الآخر. سلاح العدد المذهبي هو الأساس، والمخاوف من الوجود الفلسطيني وكثافته تكمن منذ عقود في "جمعه" مع مثيلته من المذاهب، لتحقيق الغلبة على المذهب الآخر أو الطائفة الأخرى. فلذلك تحول التهويل بتوطين الفلسطينيين في لبنان إلى "بعبع" لتخويف الآخر، أو للتخويف من الفلسطيني ومن الآخر. فكانت حروب على أنواعها، منذ ما قبل 1975، ضد الفلسطيني، ومعه وعليه. وتورّط الفلسطينيون في حروبٍ ضد بعض اللبنانيين، وبعض المسيحيين وبعض المسلمين، وقاتلوا جيش النظام السوري، وعانوا من حصار وحشي بغيض لمخيماتهم ممن كانوا يُعتبرون حلفاءهم.
وقد دفع حال الانسلاب والإذلال والشرذمة التي أحدثها الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 الفلسطينيين إلى التشرّد والهجرة في غير اتجاه، هربا مما كانوا تصوّروا أنه ملاذهم الآمن بعد "نكبة" 1948 ثم "نكسة" 1967. وراح عددهم يتقلص سنة بعد سنة، بحثا عن لقمة
العيش. تحصّنوا في لبنان، بلد الحرية وليس بلد الحقوق، وكادوا يتحولون إلى "طائفةٍ" تضاف إلى جمهورية الطوائف، وكادوا يغرقون في مستنقعها فرقا، منها من غاص عميقا ومنها من راح يبحث عن طوق نجاة. وتحولت المخيمات، مع الوقت، إلى بؤر أمنية، وتحديدا في زمن أسياد "الممانعة" الإيرانيين والسوريين.
العدد الكثيف، أو المضخّم، للفلسطينيين في لبنان كان يساوي معادلة التوطين. هو باستمرار السلاح الذي يشهر بوجههم، والذي يستعمل لتخويف اللبنانيين منهم، وإذ بهؤلاء اليوم يكتشفون أن الوجود الفلسطيني لا يصل إلى مئتي ألف شخص، فيما بات عدد النازحين السوريين نحو مليون ونصف المليون. وتدفع النتيجة "المفاجئة" لهذا التعداد منيمنه إلى المغامرة بالقول إن من الممكن أن يكون لهذا العدد "المتدنّي" مفعول عكسي، من شأنه أن يسحب فتيل "بعبع" التوطين، ويشكل عامل ضغط على إسرائيل، من أجل تسهيل عملية عودة الفلسطينيين.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.