رسالة السيد الأجنبي إلى طغاة العرب

رسالة السيد الأجنبي إلى طغاة العرب

22 ديسمبر 2017
+ الخط -
تختزل زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وملابساتها، إلى سورية، قبل أسبوعين تقريباً، أحد وجوه الأزمة العربية المستشرية والعصية على الحل. لم يرد بوتين أن يظهر مثل قيصر منتفخ الأوداج، دولياً، بسراب النصر على الشعب السوري وسحق ثورته، فحسب، بل إنه تعمد أن يرسل رسالة أخرى إلى الطغاة العرب، باسم كل أجنبي طامع: إن اخترتم طريق قمع شعوبكم وعدم التواضع لها ولمطالبها المشروعة، فإن الثمن أن تطأطئوا أعناقكم لنا، كي نصعد عليها. هذا بالضبط ما قاله المشهد المعبر، والجارح لكرامتنا نحن العرب، حينما حطت طائرة بوتين في قاعدة حميميم العسكرية في سورية التي تحولت إلى مكتب "المندوب السامي" الروسي. لم يكن الرئيس السوري، بشار الأسد، الذي جيء به من دمشق إلى القاعدة، قرب اللاذقية، على رأس مستقبلي القيصر عند درج الطائرة، كما يقتضي البرتوكول، بل كان أحد الجنود الروس. ثُمَّ كان المشهد الأكثر إيلاماً، جندي روسي يمنع الأسد من اللحاق ببوتين للسير معه، فمكان الوكلاء الغلمان في مؤخرة الركب، لا مع السادة، فالأسد اليوم في سورية لا يتمتّع حتى بصفة عامل روسيا، أو حتى إيران، على سورية، إنما يعامل كصبي، يمارس غيره السلطة الفعلية باسمه ونيابة عنه. هذا ما جناه على سورية، وهذا ما تجنيه الدكتاتوريات العربية علينا.
رأينا المشهد الأليم نفسه في اليمن. رفض الرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح، أن يستجيب لنداءات شعبه بالإصلاح، بعد حكم بئيس وفاسد زاد على ثلاثة عقود، واختار أن يتحالف مع مخلب إيران في اليمن، الحوثيين، ظناً منه أن ذلك يبقيه في الصدارة، فكانت النتيجة أن تحوّل إلى رهينةٍ لديهم، قبل أن يقتلوه، بعد أن حاول التمرّد على قواعد اللعبة التي جعلت منه مطية لهم، من حيث أراد هو أن يكونوا مطية له.
ليس الأسد وصالح أكثر من أنموذجين لغالب الحكام العرب. إنهم يحكمون بشرعية السيف، لا بشرعية الشعب. يظنون أن حصونهم وجيوشهم مانعتهم من غضبة شعوبهم، وأنهم قادرون على كسر ثورتها إن قامت. ولكن ما لا يريد هؤلاء الإقرار به إنه ما أن تهتزّ "شرعية القهر" لدى واحد منهم، فإن "شرعية الخارج" تصبح عبئاً عليه أكبر من لو أنه تنازل عن شيءٍ لشعبه.
ذلك درسٌ لم يعه دكتاتور تونس، زين العابدين بن علي، ولا مستبد مصر، حسني مبارك، ولا حتى طاغية ليبيا، معمر القذافي، فعندما سقط ردع الرعب الذي سلطوه على شعوبهم، لم يُجْدِهِمُ الغطاء الأجنبي نفعاً، فكان أن تخلوا عنهم، تاركين إياهم لمصائرهم، تشريداً وسجناً وقتلاً. قد يقول بعضهم إن بشار أكثرهم حظاً، ولكن هل هذا فعلاً صحيح، وهو قد غدا مجرّد ديكور لحاكم لا يملك من أمر بلده، ولا حتى من أمره شيئاً!
الآن، لنعطي السابق ذكرهم من الحكام حق تفسير بعض الشك لصالحهم، فهم من جيلٍ لم يخطر بباله أبداً أن شعوبهم يمكن أن تشبّ يوماً عن الطوق وتتمرّد عليهم. ركن هؤلاء إلى وَهْمٍ، ظنناه حتى نحن الشعوب حقيقة، أننا مجرّد متاع يتوارثنا أولو القوة والسلطة، وقدرنا، بل وفخرنا، كذلك، أن نعيش موضوعاً لهم، حتى ولو جلدوا ظهورنا ونهبوا أموالنا وانتهكوا أعراضنا. إذن، لنفترض، جدلاً، أن هؤلاء لم يتحسبوا لليوم الأسود الذي سقطت فيه هيبتهم من قلوب شعوبهم، فكان أن فوجئوا بالأمر، ولم يكن ردّهم عليه مدروساً. ولكن، إذا كان هذا حال هؤلاء، جدلاً، فكيف يمكن أن نسوّغ ونبرّر حال من لا يزال يصر على اتباع سيرتهم الأولى، والتي انتهت إلى كارثة؟.
ما سبق هو بيت القصيد. إذا كان الأسد في حمأة الفوضى وأخذة المفاجأة عجز عن استشراف أين انتهى به الحال "مَرْمَطوناً" لروسيا وإيران ومافيات الحرب في بلده، فإن من ما زالوا يصرّون، من الحكام العرب، على طريقه، أو طريق زملائه من القتلى أو المشرّدين أو المعزولين، لا يملكون عذراً، ولا يمكن لمنطقٍ أن يفسر سلوكهم الأرعن. إذا راهن هؤلاء على تعزيز القبضة الأمنية، فإننا نرى، بأم أعيننا، كيف أنها إلى اليوم لا تعمل في مصر. وإذا راهنوا على مظلة حمائية خارجية، فإن السعودية وورطتها في حرب اليمن تقدم إجابة بَيِّنَةً، حتى لمن كان أعمى البصيرة. أما الرهان على علاقات أفضل بإسرائيل والولايات المتحدة، طمعاً بدعم وغطاء أميركيين ضد ثوراتٍ محتملة لشعوبهم وعدوانٍ من إيران، كما تتوهم السعودية والإمارات والبحرين، فإنه عودة إلى مربع الحماقة نفسها، فالذئب لا يمكن أبداً أن يخرج من جلده، ويلغي طبيعته، ليكون حارساً للغنم.
الأنظمة الاستبدادية العربية أمام خيارات ثلاثة، اثنان منها علقم. الأول، انتفاضات شعبية عارمة، سواء على شكل ثوراتٍ منظمة أم فوضى جماهيرية، بما في ذلك من كلف كارثية على الجميع. أما الثاني، الانضواء تحت حماية أجنبية، كما جرى في سورية، وبالتالي يتحوّلون إلى صبيان وديكورات في دولهم، لا يملكون من الأمر شيئاً، ويتجرّعون الذل مَرَّاتٍ مضاعفة على يد الأجنبي الذي يدمر ولا يبني، ويكون حالهم كالمُستَجيرِ مِنَ الرَّمضاءِ بالنّارِ. أقل الخيارات كلفة هو ثالثها، وهو القيام بإصلاحات هيكلية ومؤسساتية تعيد الشرعية إلى الشعوب، كي نبدأ مرحلة التسلق من القاع الآسن الذي نقبع فيه. أما إذا ما سألت أيّ الخيارات أَرْجَحُ، فمن أسفٍ، وبناء على جينات أغلب الحكام العرب، فإنه الخيار الأول أو الثاني، وكلاهما يعني مزيداً من الفوضى والدمار والقتل، حتى يشاء الله أمراً آخر.