"مُخمل" حزامة حبايب

"مُخمل" حزامة حبايب

22 ديسمبر 2017
+ الخط -
الأخبار التعيسة تكاد لا تتوقف، غير أن خبرا مفرحا تسلّل في الأثناء، موجزه أن رواية الفلسطينية، حزامة حبايب، "مُخمل"، تم تكريمها في الجامعة الأميركية في القاهرة بجائزة نجيب محفوظ للأدب. مبعث الغبطة ليس فقط في أن هذه الرواية تنال جائزةً مقدّرةً بجدارةٍ، وإنما أيضا لأن نتاج حزامة حبايب السردي (أربع مجموعات قصصية وثلاث روايات)، وإنْ ينال انتباها طيبا في العموم، إلا أن الأداء النقدي بصدده ظلّ مقصّرا. ولعل التفاتة لجنة تحكيمٍ، رفيعة المنزلة الأكاديمية، إلى "مُخمل" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مكتبة كل شيء، 2016)، في هذا التكريم، المبهج عن حق، تُنبّه، بصورةٍ أوْفى، إلى الموقع المتقدّم لهذا النتاج في المدوّنة الروائية والسردية العربية، العريضة. 

من أدقّ ما جاء في بيان الجائزة أن "مُخمل" روايةٌ "فلسطينية جديدة"، وأنها "عن الفلسطينيين الذين تمضي حياتهم، من دون أن يُلتفت إليهم، أو أن تُدوَّن قصتهم". ومن أبلغ ما اشتملت عليه الكلمة الحارّة التي ألقتها حزامة حبايب في حفل تسلّمها الجائزة، أننا "حين يموت ناس الحكاية الذين نحبّهم، أو الذين يشبهوننا، وإن لم نعترف بذلك الشبه صراحةً، فإن قلوبنا يُصيبها كمدٌ شديد..". ويشير صاحب هذه الكلمات، هنا، إلى هذا، لأن حزنا حقيقيا غشيه في مختتم رواية "مُخمل" لمّا ماتت بطلتُها الأربعينية، وعلى الأصح لمّا قتلها ولدُها وأخوها... هل يمكن الاحتفاء بروايةٍ نهايتُها مؤسيةٌ إلى هذا الحد؟ ولكن، من قال إن على الحكايات أن تبدأ وتنتهي كما نحب؟ قالت حزامة، في كلمتها، إنها في كل مرة تخطّ فيها مشهد موتٍ، تكون شغوفةً عطوفة، عطف الحياة الشحيح، وأحيانا تكون متجرّدةً من الرأفة، قاسيةً قسوة الحياة الغالبة. .. أما القسوة، ونقصان الرأفة، وشحّ العاطفة، فإن "مُخمل" مثقلةٌ بهذا كله، لتصير نهايتُها ذروة هذا كله، عندما تُحاول "حوّا" أن تستخرج الكلمات من فمها، "لكن الأحرف تلتصق في سقف حلقها.."، وعندما تشدّ "قامتها السامقة إلى أعلى، فأعلى، وأعلى، تبلغ السحاب والسماء، قلبُها يبرق، تشهق، ثم تتداعى، وتنطفئ".
هذا عن ختام الرواية، ماذا عنها نفسها (360 صفحة)؟ هي روايةٌ عن أنوثة مُجهضة، مغدورة، منتهكة، متعبة، مستعبدة، في مخيم فلسطيني، اختارت حزامة أن يكون البقعة في الأردن. رواية حادّة، تبعث على الحنق، من فرط تفاصيل الكآبة والقهر الإنساني المقيم في فضاء البطلة، في بيت أهلها، وفي منزلها زوجةً قبل أن تتطلّق، وتبكي عندما تتطلّق "لا لأن هذا الزواج ترك بواقيها، وإنما لأن الأشياء الجميلة تأتي متأخرة". وفي مقابل هذه القتامة، حيث كل الشخصيات مهزوزةٌ، مدانةٌ، سلبيةٌ، هشّةٌ، تستقوي على بعضها، تافهةٌ، ثمّة منزل "الست قمر" خارج المخيم، في ضاحيةٍ قريبة منه (صويلح)، حيث هناءة البال والوداعة، حيث تتعلم "حوّا" الحياكة، وتتعرّف على كل القماش، فتحبّ المُخمل، ورائحتُه هي "رائحة السخونة الهاجعة". وهذه السيدة هي التي رأت فيها "حوّا" صورة المرأة التي تمنّت أن تكونها، المرأة التي ".. هواء نيسان يداعب شعرها".
تقاوم "حوّا" بؤس أحوالها، شديدة الفظاظة (هل غالت حُزامة في تصويرها؟) بأن تتخيّل حياةً أخرى لها، باشتهاء شيءٍ من عيش آخر، ليس فيه أبٌ ظالم، وشاذّ، وأم مستكينة، وجدّة فظّة، وزوج رخيص، وأخ فاشل، وابن تعيس، و...، عيشٌ في غير هذا المكان، في المخيم الذي تتجرّأ عليه كاتبة الرواية كثيرا، عندما تنزع عنه أيا من صفات المثال المعهودة في رطاناتٍ ذائعة. نعرف عن هذا كله، في مسار سرديٍّ في "مُخمل" متقطّع الأزمنة، بلغة راوٍ عارفٍ بكل شيء، وصّاف، فتصير لغة الكاتبة، ذات الحذاقة العالية، بطلا مركزيا في العمل، فالشحنات التي تُشيعها هذه اللغة، الباذخة والمناوِرة والمتقشّفة، بحسب المقال والمقام، في شأن ما تسرد عنه، تأخذ القارئ إلى جوانيّات الشخصيات، إلى الأحاسيس في وجدان "حوّا"، إلى العتمات الثقيلة في المناخ النفسي الثقيل الذي تُغالب فيه هذا المرأة عالَمها، وتنسج في غضونه أحلامها. المرأة التي عندما تعثر على نفسها امرأة تُحِبّ وتُحَبّ، تعدُ نفسَها بحياةٍ بديلةٍ منتظرة. ولهذا السبب، وليس لغيره، تُقتل.
افتُتحت فصول الرواية بمقاطع من أغنياتٍ فيروزيةٍ. وتتالت في تتابع الحكي فيها أحزانٌ ثاوية، وعواطفُ يابسة، وأفراحٌ شحيحة. وبذلك كله، وغيره، صارت رواية أسىً مالح، ثم استحقّت جائزة نجيب محفوظ للأدب.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.