عن الفاجعة الإرهابية في مسجد الروضة

عن الفاجعة الإرهابية في مسجد الروضة

03 ديسمبر 2017
+ الخط -
اهتزّت مصر من أقصاها إلى أقصاها على وقع الجريمة الإرهابية الآثمة التي استهدفت مسجد الروضة في منطقة بئر العبد شمال سيناء، وأدّت إلى مذبحة شنعاء أودت ب 310 شهداء، وعشرات المصابين، فقد اتشّحت مصر على إثرها بغلالة من الحداد، وسط حالة من الصدمة والذهول، ألمت بالعقل الجمعي للمصريين، لهول الجريمة وبشاعتها، ومدى خسّة مرتكبيها وانحطاطهم وعدم إنسانيتهم، وتُعدّ هذه الجريمة النكراء الأسوأ والأبشع في تاريخ العلميات الإرهابية في مصر، منذ أول ظهور للفِكر التكفيري العنيف في خلية "الفنية العسكرية" عام 1974.
من حيث سياقها الزماني والمكاني، تُعدّ الجريمة نقلةً نوعية، وكمية كبيرة للعمليات الإرهابية داخل مصر من عدّة أوجه، فهي المرّة الأولى التي تُستهدف فيها المساجد، فضلاً عن أن يكون الاستهداف في أثناء شعائر صلاة الجمعة التي تكون فيها المساجد في ذروة اكتظاظها بالمصلين، علاوة على طريقة التنفيذ المزدوجة بالغة البشاعة بتفجير، وإطلاق نار كثيف بصورة عشوائية وهمجية على المسجد ومحيطه، كما أنها تخرج عن دائرة الأفراد الرسميين من رجال الجيش والشرطة، كما المعتاد في العمليات الإرهابية في سيناء، إلى دائرة عموم المواطنين العاديين.
وعلى الرغم من عدم تبني أي جهة للعملية حتى الآن، إلا أنها تحمل بوضوح بصمة تنظيم 
الدولة الإسلامية (داعش)، فهذه الصورة الدموية الهمجية البربرية من الإرهاب لم تعرفها مصر من قبل، وجاءت جريمة مسجد الروضة بصورةٍ تتطابق مع جرائم "داعش" في مساجد الشيعة في العراق، ما يُرجّح قدوم عناصر داعشية وافدة إلى سيناء، لا سيّما وأنّ مسجد الروضة تابع للطريقة الجريرية الصوفية المعروفة بمواقفها المناهضة لتنظيم داعش الذي سبق أن قتل تسعينياً من شيوخ الطريقة قبل عام، أعقبته تهديداتٌ من أمير الحسبة في ولاية سيناء للصوفية عبر مجلة "نبأ" التابعة للتنظيم، فثمّة خصومة عقدية كبيرة بين السلفية الجهادية والصوفية.
جاءت الجريمة مع اقتراب العام الجاري من نهايته، والذي شهد خسارة "داعش" مركزه ومعقله الرئيسي في سورية والعراق، بالتزامن مع انحسار نشاط فرعه في سيناء، حيث انحسرت كثيراً العمليات الإرهابية لولاية سيناء في العام 2017، مقارنة بالأعوام الثلاثة الماضية. ويبدو هنا أنّ "داعش" أراد بهذه الجريمة إرسال رسائل إلى عدّة أطراف مصرية، وإقليمية، ودولية.
بشأن الداخل المصري، أراد تنظيم داعش أن يرسل رسالة تهديد مزدوجة للنظام، بهدف ضرب هيبته، وإظهار قصور رؤيته الأمنية، وأنه لم يتأثّر بالضربات الأمنية التي تلقاها في الفترة الماضية، وللقطاع المجتمعي السيناوي المتعاون مع الأمن، بمحاولة بثّ حالة من الرعب في أوصاله، بأنّ القتل بهذه الطريقة البشعة هو مصير من يخالف نهج التنظيم.
وأراد إرسال رسالة قوية إلى الأطراف الإقليمية والدولية التي تلاحقه، بأن الخسائر الكبيرة التي مُني بها خلال الأشهر الماضية في مركزه الرئيسي لم تفتّ في عضده، ولم تُضعف بنيته، وأنه ما زال موجودا قوياً، وقادراً على توجيه ضرباتٍ بالغة القوّة في فروعه، بعدما فقد مركزه في سورية والعراق.
طوال السنوات الماضية، ظلّت معالجة السلطة في مصر لظاهرة الإرهاب على حالها، إذ ترى السلطة مواجهة الإرهاب حقّا أصيلا لها بصفة حصرية، فالمعركة معه معركة الدولة من دون المجتمع الذي تقوم السلطة بتغييبه وتكبيله وتهميشه، على الرغم من أنه طرف أصيل فيها، كونه في قلب دائرة نيران الإرهاب، والجريمة الأخيرة أكبر دليل على هذا، فالإرهاب يهدف إلى إحراق الوطن بأكمله، كما تقتصر معالجة السلطة على المقاربة الأمنية وحدها، من دون توسيعها إلى استراتيجية متكاملة متعددّة الجوانب، وهذا قصور كبير، لأن الحلّ الأمني، على أهميته في مواجهة من ينتهج العنف، ويُشهِر السلاح في وجه الدولة والمجتمع، إلا أنه يتعامل مع العَرَض، لا مع جذور المرض.
على مدار الأعوام الماضية، وعلى وقع العمليات الإرهابية المتتالية في مصر، اتُخذَت إجراءات أمنية عديدة، فقد أُعلنت حالة الطوارئ، وتمّ إنشاء منطقة عازلة على الحدود مع غزّة، كما تمّ إنشاء المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرّف، إلى جانب الجهد الكبير لقوّات الجيش والشرطة في مواجهة الإرهاب في سيناء، إلا أنّ الظاهرة لم تختفِ بعد، وإن انحسرت، ما يدلّ على ضرورة إعادة النظر في الاستراتيجية المُتبعة وتعديلها.
بإمعان النظر إلى ذلك الكائن المتطرّف الذي يستحلّ دماء الأبرياء، ويحترف القتل والتفجير، بل ربما يفجّر نفسه، ظنّاً منه أنه بإجرامه يتقرّب إلى الله، نجد أنه منتوج نهائي مرّ بمراحل سابقة، أصابته بشوهّات مفاهيمية، وعقلية، ونفسية عميقة، قبل أن يصل إلى المرحلة الأخيرة التي 
يتعامل معها الحلّ الأمني، إلا أن السؤال يظلّ قائماً: ما هي العوامل التي أدّت إلى ظهور هذه الصورة الكارثية شديدة التشوّه؟ والجواب هنا قطعاً ليس من اختصاص الأجهزة الأمنية، وإنما من اختصاص جهات مجتمعية أخرى يجري تهميشها، وعدم الاستماع لصوتها، فللقضاء على المرض من جذوره يتعيّن تفكيك البنية الفكرية للتطرّف، وقبلها إغلاق الأوعية التجنيدية له، عبر تجفيف الحاضنة الشعبية للتنظيمات الإرهابية، أو الشروط الموضوعية المُنتجة له، السياسية منها، والاقتصادية، والاجتماعية، التي تمثّل التربة الخصبة لإنبات التطرّف وانتشاره.
لا تملك التنظيمات المتطرّفة الإرهابية مشروعاً سوى التكفير والقتل للجميع، وإقبال شباب في عمر الزهور (بعضهم يتمتع بمستوياتٍ تعليميةٍ رفيعة، وينحدر من طبقات اجتماعية مرموقة) على الانضمام إليها أمر يثير الدهشة، ويستحقّ التوقّف للبحث في الظروف التي دفعتهم إلى السقوط في المنحدر البائس العدمي.
الإرهاب ظاهرة مركّبة في أسبابها، يختلط فيها السياسي، بالاجتماعي، بالثقافي، بالهوّياتي بشكل مُعقّد. لكن يظلّ في مقدمتها انسداد آفاق التغيير السلمي، واحتكار السلطة والثروة، وزيادة مساحة المظالم الاجتماعية والتهميش، وانغلاق أبواب الحراك الاجتماعي أمام الشباب، ما يسلبهم الأمل في مستقبل أفضل، حيث يؤدي الواقع السوداوي وتراكم الإحباطات السياسية والاجتماعية إلى انفجار فتيل العنف الذي يتخذ من التأويلات الفاسدة للنصوص الدينية غطاءً شرعياً، ومطية تخدم أغراضه، والتعامل مع الأعشاب الطفيلية، والأغصان الضارّة، من دون التعاطي الناجع مع الجذور، مع الإبقاء على التربة الموبوءة، والبيئة المسمومة يعني الدوران في حلقة مفرغة، حيث يُعيد التطرّف إنتاج نفسه في صور وأشكال جديدة، ربما تكون أشدّ عنفاً ودموية من سابقتها.