التضحية بالآخرين وبالغنم

التضحية بالآخرين وبالغنم

03 ديسمبر 2017

(Getty)

+ الخط -
عَلَّقَ الصديق، نون عين كاف، قبل حوالي أسبوعين، على أحد منشوراتي الفيسبوكية، موضحاً أنه أرسل إليَّ طلب صداقة من حسابه الجديد، فأتاه الجواب أن الشخص المطلوب (يعني أنا) لا يستطيع قبولَ طلباتٍ جديدة، لأنه قد بلغ الحد الأقصى المسموح به من الأصدقاء، وهو خمسة آلاف. ولأن صديقي المذكور حديث العهد في الشغل على "فيسبوك"، فقد كتب إلي، على العام: يا صديقي، تَدَبَّر الأمرَ بمعرفتك؛ ولقد علمتُ أنه لا يوجد سوى طريقة واحدة لنصبح أصدقاء، وهي أن تحذف أحدَ أصدقائك، وتضيفني مكانه!
أبعدتني الظروف التي نَشَأَتْ بعد ثورة 2011 عن معظم أصدقائي، وكنت، خلال السنوات الست الماضيات، أبحثُ عنهم في "فيسبوك"، وأراقب الذين ترد أسماؤهم ضمن قائمة الأصدقاء المُقْتَرَحِين، عسى أن أعثر بينهم على صديقٍ قديمٍ يهمني أمرُه.
نون عين كاف، مثلاً، لم أهتدِ إليه حتى سنة 2015، حينما مرّ حسابُه أمامي، فراسلتُه، وعرفتُ أنه يقيم مؤقتاً في مدينة عنتاب التركية، وسررتُ لأنه لم يخسر في الحرب أحداً من أفراد أسرته، أما الخسائر المادية فكثيرة بالطبع.
أصبح الحديث عن الخسائر المادية بيننا، نحن السوريين، اعتيادياً، بل نافلاً، فمَنْ يقولُ لك خسرتُ بيتي، ومزرعتي، وسيارتي، تستطيع أن تجيبه معدّداً الأملاك التي خسرتَها أنت الآخر، والحقيقة أننا خسرنا سورية كلها، بفضل الحكم الاستيطاني الاستبدادي الذي أسّسه حافظُ الأسد وأورثه لابنه، فكانت عملية التوريث، بحسب أستاذنا صادق جلال العظم، أكبر إهانةٍ يتلقاها الشعب السوري في مطلع الألفية الثالثة.
تبادلنا، صديقي وأنا، أرقام الهواتف، وتحدثنا قليلاً، وواربنا باب الذكريات، واتفقنا على أن نتحادث بين حين وآخر، وأن نتبادل الزيارات، باعتبار أننا منفيون في دولةٍ واحدةٍ هي تركيا.. ثم غاب نون، وأخيراً عرفتُ أنه أصبح ضيفاً عزيزاً على المستشارة الألمانية العمة ميركل التي وجدت أن مصلحة بلادها تقتضي فتح الأبواب للاجئين السوريين، فكان هذا من حسن حظنا، نحن الهاربين من القتل والتخريب والمحرقة.
توجد خلافاتٌ كبيرةٌ في وجهات النظر السياسية بيننا، نون وأنا، لكن هذا لا يفسد لصداقتنا قضية. وحقيقةً لقد سرتني عودتُه إليَّ، فيسبوكياً، فهذا النوع من التواصل أصبح جيداً ومسلياً بالنسبة لنا، نحن السوريين الذين أصبح بعضُنا مُطَارَدَاً من نظام الأسد، وبعضُنا الآخر من الجهاديين، وبعضٌ ثالث، مثلي أنا، جامعاً المجدَ من أطرافه، إذ أصبح مطلوباً للأسد ولعدد كبير من الفصائل الجهادية في آن واحد.
قرأتُ تعليق نون، فتوجهت من توّي إلى الماسنجر، وكتبت له على الخاص: أبشر أيها الصديق الغالي،ٍ فأنا لن أضحي لأجلك بصديقٍ واحد فقط، وإنما بعشرة أصدقاء، فأنت أخٌ عزيز، وخاطرك عندي كبير.
وضحكتُ في سري، وقلت: نحن العرب مشهورون بالكرم، والعطاء، والبَذل، والـ "تضحية بالآخرين"، فهل أضنُّ على صديقٍ عزيز تعرفتُ عليه قبل أكثر من ثلاثين سنة بعشرة أصدقاء؟
وتابعتُ محدّثاً نفسي من خلال تيار الوعي، فقلتُ: التضحية بالآخرين عمل سهل، بل وممتع.. وإن كان الشيءُ بالشيء يُذكر، فقد روى لنا أحدُ معارفنا حكايةً لا نعرف مدى صحتها عن حاتم الطائي، فقال إن عدداً كبيراً من الرجال حَلُّوا ضيوفاً عليه في وقت متأخر من الليل، وكان كَرَمُه قد أوصله، في هاتيك الأيام، إلى حافّة الإفلاس، ومع ذلك ذبح لضيوفه الخواريف القليلة المتبقية لديه، ثم ذبح حصانَه الأبجر، وحينما هَمَّ بذبح ابنه وقفوا في وجهه، وقالوا له: علينا الطلاق بالتلاتة ما منسمح لك تدبحه. خلص أخي حاتم، اللي فيك مخبور، ووالله أنك ما قَصَّرْت. فأعاد المسكين حاتم السكينَ إلى نصابها، وجلس مقهوراً، وراح يتحدّث كالحكماء فقال: لعنة الله على (الغنم)، لو كان عندي منها المزيد لما وقعتُ في هذا الإحراج أمام ضيوفي الأعزاء.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...