في البحث عن العدالة الدولية

في البحث عن العدالة الدولية

16 ديسمبر 2017
+ الخط -
هل يمكن الحديث عن عدالة دولية؟ إنها معضلة بكل المقاييس، والسبب تسيسها، أي خضوعها لحسابات المصالح. وبما أن التاريخ يكتبه المنتصرون، فإن العدالة أيضاً يقرّرها المنتصرون والأقوياء. وتعبر الإشكالات التي تعتري عمل محكمة الجنايات الدولية عن تبعية العدالة لموازين القوى وحسابات المصالح. فحتى تتمكّن هذه الهيئة القضائية الدولية من أداء مهمتها يجب أن يتوفر شرط أساسي: اتفاق القوى النافذة على الساحة الدولية على مثول الشخص المعني أمامها. وهذا أمر نادر.
لمّا اتفقت دول على التوقيع على معاهدة روما (1998) المؤسِّسة لمحكمة الجنايات الدولية (بدأت تعمل في 2002)، ومهمتها النظر في قضايا المحرقة والجرائم ضد الإنسانية ومتابعة مرتكبيها ومحاكمتهم، رفضت دول أخرى التوقيع والانضمام، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، فعقيدة الأخيرة واضحة: رفض مثول جنودها ومحاكمتهم أمام هيئات قضائية أجنبية أو دولية. ووجدت حينها نفسها ضمن مجموعة من الدول، منها إسرائيل وليبيا وكوريا الشمالية والعراق... وجاء موقف أميركا ليقطع الطريق أمام أية محاولةٍ لمتابعة جنودها بسبب جرائم عقب تدخل عسكري في بلد ما. وهناك حوالي ثلاثين دولة لم تُصادق على معاهدة روما، بل هناك مسار عكسي في هذا المجال، والمتمثل إما في تعليق عملية المصادقة، كما الحال مع روسيا، أو الانسحاب نهائياً من المحكمة الجنائية الدولية، كما أعلنت ذلك الغابون وبوروندي وجنوب أفريقيا.
أعلنت روسيا، التي وقعت على المعاهدة في 2000، نيتها تعليق المصادقة عليها، بدعوى عدم استجابة الجنائية الدولية. وتعيب روسيا على محكمة الجنايات الدولية عدم استقلاليتها، لذا ترفض الانضمام إليها. إذ تتهمها بالانحياز للقوى الغربية. والقرار الروسي حق أريد به باطل، فروسيا تريد أن تحمي جنودها، كما تفعل الولايات المتحدة. صحيح أنها عارضت العدالة الدولية، بسبب متابعتها ومحاكمتها للمسؤولين الصرب جراء الجرائم المقترفة إبّان حرب
البوسنة، لكن يبدو أنها تهتم بالأساس بالتداعيات المحتملة لتدخلها في سورية (القانون التأسيسي للجنائية الدولية لا يسمح بالمتابعة في جرائم وقعت قبل تأسيسها في 2002). لذا تريد، هي الأخرى، مثل أميركا، حماية جنودها من أي متابعة محتملة. وكل القوى الكبرى (أميركا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا) والمتوسطة (منها إسرائيل) وكل الدول الديكتاتورية والتسلطية تفكّر في الأمر نفسه: إبعاد شبح الجنائية الدولية عن جنودها وعن مسؤوليها أيضاً.
أما الدول الأفريقية فيندّد معظمها بتحول الجنائية الدولية إلى هيئة لمحاكمة الزعماء الأفارقة دون سواهم، لأن معظم من مثلوا أمامها يأتون من هذه القارّة. وهذا ما يفسر أيضاً غياب عامل القوة، إذ لا توجد في أفريقيا ولو قوة عظمى واحدة تؤثر، هي الأخرى، على استقلالية المحكمة الجنائية الدولية. لكن مثول بعض هؤلاء أمامها هو تحقيق للقصاص، وبالتالي مراعاة لحقوق ضحاياهم، وهم أفارقة أيضاً. ومن ثم، فالانحياز الحقيقي أو المفترض للجنائية الدولية لا يمكن أن يكون عذراً للسكوت عن جرائم يقترفها الزعماء الأفارقة في حق شعوبهم.
في المقابل، سعت السلطة الفلسطينية جاهدة إلى الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، وأصبحت فلسطين عضواً فيها في 2015. والغرض هو رفع شكاوى ضد جرائم إسرائيل، لكن الأخيرة ليست عضواً في الجنائية الدولية.
تثير حالياً قضية منح المحكمة الدولية صلاحية النظر في العدوان جدلاً واسعاً بين دولها الأعضاء، وعددها 132 دولة. إذ ترفض فرنسا وبريطانيا والأعضاء الدائمون في مجلس الأمن عموماً تخويلها هذه الصلاحية، ذلك أن عدوان دولةٍ على أخرى جريمة يقترفها رئيسها أو صناع القرار فيها. وبالتالي، فهي الصلاحية الأكثر حساسيةً، لأنها تخص عموماً سلوك الأقوياء. وكانت الدول المتفاوضة على معاهدة روما قد اتفقت على إرجاء البت في هذه المسألة. وبعد ما يقارب عقد من بدء الجنائية عملها، بدأ النقاش لتكييف هذه الجريمة وكيفية نظر المحكمة الدولية فيها. لكن لا يبدو أنها ستفلح في الفصل فيه اليوم، لتحوله إلى صراع سياسي بشأن الحالات التي تنطوي تحت هذا التكييف القانوني، وأبرزها غزو أميركا للعراق في 2003 بقرار من الرئيس جورج بوش الإبن، لكن هناك حالات أخرى: جمهورية الكونغو الديمقراطية تتهم رواندا وأوغندا بالعدوان، وجورجيا تتهم روسيا بالعدوان.. كما قد يتهم بعضهم اليوم فرنسا ساركوزي وبريطانيا كاميرون بالعدوان على ليبيا، والسعودية بالعدوان على اليمن... إذن، هناك مخاوف من شكاوى كثيرة ضد زعماء قوى كبرى، فضلاً عن زعماء قوى متوسطة ودول ضعيفة.
وتعارض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن تخويل محكمة الجنايات الدولية صلاحية النظر في العدوان، حماية لقادتها من أية متابعة قضائية. وتعتبر بعض الضمانات غير كافية، ومنها منع المدّعي العام من فتح تحقيق جنائي، من دون أن يُعلِم مسبقاً الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الأممي، وصلاحية الأخير في طلب تعليق التحقيق سنة قابلة للتجديد، فضلاً عن إمكانية دولة طلب إعفاء رعاياها من متابعة قضائية. وهذه النقطة في غاية الحساسية، لأنها تسمح لدول كبرى بطلب عدم متابعة رئيسها، وما لذلك من تبعات، ليس فقط على مستوى
الرأي العام، وإنما على المستوى السياسي (الجنائية لا تنظر إذن إلا في جرائم الصغار) وحتى على مستوى جدوى المحكمة الجنائية الدولية في حد ذاتها، إذا كانت للعدالة الدولية مثل هذه الحدود.
بغض النظر عن تعارض مصالح الأطراف وتوافقها، فإن تكييف جريمة العدوان ومنح الجنائية الدولية صلاحية النظر فيها مسألة في غاية التعقيد، لأن عمل المحكمة سيكون مرهوناً بنتائج الاعتداء وليس بالاعتداء في حد ذاته.
لنأخذ الحالة الليبية نموذجاً: لنتصور أن التدخل العسكري قاد إلى إسقاط النظام، وإلى وضع البلاد على سكة الانتقال الديمقراطي، ونجحت ليبيا في إرساء نظام ديمقراطي حقيقي، هل سنجد من يفكر في رفع شكوى ضد ساركوزي أو كاميرون؟ والأمر نفسه يقال عن العراق، هل هناك من سيفكر في متابعة بوش وتوني بلير قضائياً، لو كانت نتائج الغزو غير التي نعرفها اليوم؟ المشكلة إذن أن التكييف القانوني يكون وفق النتائج. فضلاً عن ذلك، فإن العمل بمبدأ العدوان يزيد التوتر حدةً بين مبدأين في القانون الدولي: سيادة الدول وحماية المدنيين. ولذا، تدافع كل الدول غير الديمقراطية المنضمة لمحكمة الجنايات الدولية عن صلاحيتها للنظر في العدوان، لأن ذلك يقي أنظمتها من المتابعة القضائية الدولية، ويمنحها بالتالي متسعاً لمواصلة قمع شعوبها.