لمّا هزمت الشوربة غُزاة جنيف

لمّا هزمت الشوربة غُزاة جنيف

15 ديسمبر 2017

ثلوج في جنيف عشية الاختفال بيوم اسكالاد (العربي الجديد)

+ الخط -
لمّا سمعتُ من محدّثتي، نهار السبت في جنيف، أن اليوم التالي (عطلة الأحد) سيشهد احتفال أهل المدينة بذكرى الانتصار على غُزاتها، وجدتُني أندهش من أن غزوا وانتصارا جرى هنا، في هذه المدينة الشديدة الوداعة، الصغيرة، الأجانب فيها أكثر من أهلها، الثامنة من بين الأعلى جودةً في المعيشة في العالم. مَن هؤلاء الغزاة، وكيف صار الانتصار؟ سـألتُ، فأُجبت بأن امرأةً دلقت شوربةً ساخنةً على المهاجمين، وهم يتسلقون سور المدينة ليلا، ثم أفاق جرّاء صياحهم أهل جنيف الذين صدّوا هؤلاء، وأحبطوا خطتهم لفتح البوابة الرئيسية للمدينة. غشيني شيءٌ من الحرج لعدم درايتي بالواقعة التي تعود إلى أزيد من أربعمائة عام. وكيف لي أن أعرف، والحروب بين ظهرانينا، نحن العرب، لا تيسّر سعةً في المزاج للاكتراث بحربٍ من هذا القبيل، ساعاتُها معدودة، في مدينةٍ لا يحيل اسمُها إلى غير هناءة البال. ثم حدّثت نفسي أن من المناقبيّة أن يشارك زائرُ مدينةٍ، يتعرّف إليها أول مرة، أفراح ناسِها بمناسبةٍ بهيجةٍ، مثل ذكرى انتصارٍ كالذي أنجزه الجنيفيون، لمّا أفشلوا الغزاة، سيما أن ثمانية عشر منهم ماتوا في المعركة، بعد منتصف الليل يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول 1602. 

إنه يوم "إسكالاد" (التسلق بالفرنسية). خيولٌ في الشوارع، عليها رجالٌ بأردية محاربين من ذلك الزمن، طبولٌ تُدق، أصوات نحاسيات، نساءٌ وصبابا وأطفالٌ وشيوخٌ وشبّان وفتيةٌ بأزياء متنوعة مزيّنة، بعضُها غريب، وموسيقى، وعرباتٌ قديمة، وصياحٌ متقطع، وسلالم عتيقة، ومفاتيح كبيرة. وأيضا طناجر وقدورٌ من خشب، وأخرى من نحاس، وأوعيةٌ للشوكولاتة السائلة الساخنة، وغير ذلك كثير في احتفاليةٍ مهرجانية، فيها ناسٌ كثيرون، جالوا في المدينة، ثم وصلوا إلى ساحةٍ أمام كاتدرائيةٍ عتيقةٍ في المدينة القديمة، حيث يبدأ عرضٌ مسرحيٌّ مستوحى من حكاية الانتصار في تلك الليلة البعيدة. هنا صارت واقعة الحساء الذي رمت به السيدة كاترين تشينيل (أم لأربعة عشر طفلا) المهاجمين الذين بعثهم دوق سافوي، ليتسلّقوا جدار المدينة (القديمة الآن) ويفتحوا بوّابتها. لم يفلحوا. كتب من كتب إن الشوربة المغلية قتلت أحد المهاجمين، فعلا صراخُهم، قبل أن تنال الهزيمةُ منهم في معركةٍ، صارت مسلحةً في هزيع الليل. ومع شقشقة الفجر، قُبض على ثلاثة عشر من الغزاة، ثم تم شنقهم.
كنت هناك، أمام الكاتدرائية، وبين الأسوار القديمة. وفيما البرد شديدٌ والمطر وفير، كان لا بد من احتساء الشوكولاتة الساخنة، ومحلاتها المزدحمة كثيرةٌ في المكان، وعامرةٌ بدفء لملمة الشبان والشابات على بعضهم. كان الانتصار هنا، بعد حربٍ قليلة الساعات وقليلة الضحايا. بعد شهور، صارت معاهدة سلامٍ مع دوق سافوي المهزوم. عن ذلك كله (وغيره) تتحدّث أغنيةٌ مؤلفها غير معروف، صارت النشيد الوطني لجنيف الذي كانت تردّده مواكب المشاركين في مسيرات المهرجان الطويلة الفرحة في المدينة، مع البرد والمطر، كما رأيتها قدّامي. وقد علمت، في الأثناء، أنهم لا يعدّون الشوربة في هذا العيد، وإنما الشوكولاتة التي يكسر الناس أوعيةً كبيرة لها، وهم يهتفون "فليهلك أعداء الجمهورية".
هناك تفاصيل أخرى في الحكاية كلها، بعضُها متصلٌ بتنازعٍ بروتستانتي كاثوليكي، غير أن الأجدى، ربما، لإنعام النظر في هذه السردية، الموجزة هنا، عن غزوٍ وانتصار، عن بهجةٍ بهزيمة الأعداء، وتحديدا في ميل أهل مدينةٍ منفتحةٍ، لا هوية عرقية واحدة تجمع ناسَها، ولا لغة أصلية فيها (الفرنسية هي الغالبة)، لولا الوافدون والمجنّسون والزوار السياح وموظفو الأمم المتحدة (يقل عدد السكان عن ثلاثمائة ألف) لما نهض اقتصادُها، ميلِهم إلى أهمية أن يضمّهم شعورٌ واحدٌ بانتماءٍ ما يجمعهم. وهذا حال سويسرا نفسها التي يضم "كانتوناتِها" (لهذه المفردة هناك ظلالٌ إيجابية) اتحاد فيدراليٌّ بأربع لغات، وبقومياتٍ مختلفة، تجتمع في كيانٍ عثر على المشتركات بين مكوّناته في شيءٍ من مصادفات التاريخ، العيد الوطني لهم هو تاريخ إنشاء الاتحاد، ولكل "كانتون" أن يجد عيده الخاص إذا أراد، فكان أن رأته جنيف في يوم "إسكالاد"، لمّا حاول غزاةٌ تسلق جدران المدينة، فردّتهم على أعقابهم شوربةٌ ساخنة، ثم صارت هزيمتُهم.. هل من يُفتي بجواز الحسد في حالةٍ كهذه؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.