مصر وتحوّر جماعات العنف السياسي

مصر وتحوّر جماعات العنف السياسي

13 ديسمبر 2017
+ الخط -
في الوقت الذي تتراجع فيه جماعات العنف السياسي في المنطقة، مثل تراجع تنظيم داعش في سورية والعراق وليبيا خلال العام الحالي، ترتفع وتيرة العنف السياسي في مصر بشكل ملحوظ، فخلال الفترة نفسها، اتخذت هجمات جماعات العنف السياسي في مصر منحنى دموياً صاعداً.
فمنذ عام تقريباً، بدأت جماعة مثل "داعش" في التمدّد نحو وسط سيناء والوادي، وشنت حملة طائفية عنيفة ضد المسيحيين المصريين، لتهجيرهم من سيناء، والهجوم على كنائسهم في المدن الكبرى، ولم تكن تلك الهجمات إلا مقدمة لهجماتٍ أكثر دمويةً وتوحشاً على قوات الأمن، وعلى المصريين المسلمين، على حد سواء. ففي مايو/ أيار الماضي، شن مسلحون هجوما دمويا على حافلة تقل أسرا مسيحية في طريقها إلى أحد الأديرة في المنيا، ما أدى إلى مقتل حوالي ثلاثين شخصا. وفي شهر أكتوبر/ تشرين الأول، تعرّضت قوات شرطة لهجوم دموي في الواحات، وهو الهجوم الذي تراوحت تقديرات عدد ضحاياه، وأقيل بعده رئيس قطاع الأمن الوطني في الداخلية المصرية ورئيس أركان الجيش المصري. وفي 24 نوفمبر/ تشرين الثاني، هاجم مسلحون مسجد الروضة في مدينة بئر العبد في شمال سيناء، وهو مكتظ بالمصلين يوم الجمعة، ما أدى إلى مقتل أكثر من ثلاثمئة مصلٍ بين عجوز وشاب وطفل صغير، في حادثة وُصفت بأنها أكبر مجزرة ترتكبها جماعات العنف السياسي داخل مصر في العصر الحديث. وتثير تلك الحوادث، وطبيعتها الدموية الفجة، أسئلة كثيرة تتعلق بهوية مرتكبيها؟ والأسباب التي تدفعهم إلى التوحش؟ وقدرة السلطات المصرية على مواجهتهم والقضاء عليهم؟ ومستقبل تلك الجماعات وموجة العنف السياسي الراهنة في مصر؟ وهنا نطرح التصورات التالية:
أولا: يبدو تنظيم داعش في تراجع في مختلف دول المنطقة، بما في ذلك مصر، فقد خسرت 
معظم الأراضي التي تسيطر عليها في سورية والعراق، وتم طردها من أهم معاقلها في ليبيا، مثل مدينتي سرت ودرنة، كما فشلت في السيطرة على أي مدن مصرية منذ نشاطها في البلاد. وقد يفسر ذلك التراجع طبيعة الهجمات الوحشية التي تشنها الجماعة المتشدّدة في مصر، فتنظيم داعش يتلقى الهزيمة تلو الأخرى عبر الإقليم. ومع الهزيمة، يشعر مقاتلوها بمزيد من اليأس، والذي قد يدفعهم إلى شن هجماتٍ أكثر وحشيةً لإثبات وجودهم من ناحية، وخدمة أجندتهم السياسية المتشدّدة من ناحية أخرى، وهي أجندة تقوم على استفزاز مشاعر الخوف وعدم الأمن وغياب الاستقرار والطائفية لدى مواطني الدول التي تنشط فيها، سعيا إلى نشر الفوضى، وتقويض عمل مؤسسات الدول ووجودها، ومن ثم التحكّم أكثر في حياة المواطنين الأبرياء.
فالهجوم على الأقباط سعى من خلاله "داعش" إلى إثارة النعرات الدينية والطائفية، والهجوم على المساجد قد يكون محاولة لتعميق شعور مواطني شمال سيناء بعجز قوات الأمن عن حمايتهم، وقد يكون نوعا من الانفلات وسط عناصر "داعش" المتراجعة، والمنقسمة على ذاتها، وقد يكون أيضا نتاج عقلية "داعش" الذي عرف عنه التشدّد، مقارنةً بغيره من الجماعات والتنظيمات العنيفة الأخرى، بما في ذلك "القاعدة" مثلا، حيث تبدو الأخيرة أكثر معارضة لاستهداف المدنيين، في حين لا يتورّع "داعش" بتشدده عن مهاجمة المدنيين في محاولة لترويعهم وإخضاعهم.
ثانياً: تراجع "داعش" لا يعني نهاية هذه الجماعة في المنطقة أو في مصر، فلم يسع "داعش" إلى السيطرة الكاملة على أي مدن مصرية، إلا في محاولة فاشلة للسيطرة على مركز مدينة الشيخ زويد في يوليو/ تموز 2015، فيما عدا ذلك، يفضل "داعش" في مصر أساليب الكر والفر والهجمات المفاجئة والاختباء في الصحاري والمناطق غير المأهولة، مستفيدا من سعة الصحراء في سيناء، وعلى الحدود الغربية، ومستفيداً كذلك من عودة مقاتليه المهزومين من دول، كالعراق وسورية وليبيا، وما يحملونه من مهارات وخبرات قتالية. ولذلك قد يمتلك "داعش" فرصة للبقاء سنوات مقبلة، وشن هجمات على فترات بعيدة نسبيا في غياب معالجة استراتيجية للأزمات التي تتسبب في ظهورها، كالاحتقان السياسي وغياب الديمقراطية والتنمية. وهذا يعني أن "داعش" قد يتراجع، جماعة ومنظمة، لكنه لن يختفي شبكة من المقاتلين، وبدلا من محاولة السيطرة على مدن أو قرى، سيميل "داعش" إلى أسلوب القرصنة والهجمات المباغتة الدموية بديلا لإثبات الوجود.
ثالثاً: سيؤدي تراجع "داعش" أيضا إلى صعود نفوذ جماعات عنيفة أخرى، نعرفها أو لا نعرفها، ففي العراق مثلا بدأ بعضهم يتحدث عن نشاط جماعات جديدة غير معروفة في مناطق السنّة، النائية البعيدة عن سيطرة "داعش" والقوات الحكومية والمليشيات الداعمة لها، وهذا يعني أن سقوط "داعش" بعد هزيمته في حروبٍ طاحنةٍ، على أيدي القوات الحكومية، لم يقض على ظاهرة الجماعات العنيفة، بسبب استمرار المشكلات السياسية والأمنية التي أدت إلى ظهورها، ما سمح بصعود جماعات جديدة. وفي مصر، بدأنا نسمع عن عودة جماعة تسمى جند الإسلام للنشاط في شمال سيناء، وهي جماعة تحمل فكر القاعدة، ويقول متابعون إنها تسبق وجودها "داعش"، وقد تعود نشأتها إلى عام 2011، ويبدو أن "داعش" هزمها في أوج قوته، لتعود إلى الأنظار أخيرا، معلنة الحرب على "داعش" ورفض هجماتها على المدنيين. وعلى المنوال نفسه، بدأنا نسمع عن نشاط جماعة جديدة، تسمى أنصار الإسلام في الواحات، وعن مسؤوليتها عن هجوم الواحات البحرية الدموي، وأن الجماعة الأخيرة تختلف عن المرابطين، لكنها ترتبط بها فكريا، وربما تنظيميا، وكذلك في ولائها للقاعدة.
وهذا يعني أن تراجع "داعش" سمح بعودة القاعدة وجماعات مرتبطة بها، وهي جماعاتٌ تركز على مهاجمة قوات الأمن، هذا بالإضافة إلى الجماعات الصغيرة الناشطة في الوادي، مثل "حسم" وأخواتها.
رابعا: تبدو الحكومة المصرية مصرّة على استراتيجية المعالجة الأمنية لمشكلة العنف السياسي 
والجماعات المسلحة، وهي استراتيجية تبدو ناجحةً على المدى البعيد، لكنها عالية التكلفة، فبعد كل هجوم كبير، يخرج الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ليعلن عن انطلاق حملات عسكرية تستخدم "القوة الغاشمة"، لتتبع الجماعات العنيفة وأماكن اختبائها. وفي العادة ما ترتبط تلك الحملات العسكرية باستخدام سلاح ثقيل، كسلاح الجو المصري، في مهاجمة أهداف في سيناء وليبيا والصحراء الغربية.
وتفتقر استراتيجية "القوة الغاشمة" لمقومات أساسية للنجاح السريع والفعال، فالدراسات الأمنية تطالب القوات المصرية بالعمل أكثر على الأرض، ومع أهالي المناطق المستهدفة لبناء استخباراتٍ أفضل، وتأمين المناطق المدنية، ونشر أفضل للقوات، وتتبع الجماعات العنيفة، فالغارات الجوية قد تتمكّن من قتل بعض المسلحين، وهدم مقارّهم، لكنها لن تتمكّن من اكتشاف شبكاتهم والقضاء عليها. أما الدراسات السياسية فتطالب الحكومة المصرية بما هو أكثر، فالقضاء على جماعات العنف السياسي يتطلب انفتاحا سياسيا، وتنمية اقتصادية، ونشرا لمناخ الحرية، بما يساهم في تقويض إيديولوجية الجماعات العنيفة، ومنطق وجودها. وللأسف، تبدو الحكومة المصرية مصرّة على استراتيجيتها الأمنية القاصرة، وهي استراتيجيةٌ قد تتمكّن على المستوى البعيد من القضاء على الجماعات العنيفة، من خلال توجيه الضربات الأمنية المتتالية لعناصرها في مصر، وانتظار هزائمها عبر الإقليم، لكن هذا الانتصار سيأتي بتكلفة عالية تتمثل في إطالة أمد الصراع، وزيادة عدد ضحاياه، وعدم القضاء على أسباب ظهور تلك الجماعات في المستقبل، ما يسمح بتحوّرها وظهورها في صور جديدة، ولو بعد حين.