هيا نكتب الآن

هيا نكتب الآن

02 ديسمبر 2017
+ الخط -
عندما دخلت الجامعة أول عام، تساءلت في حيرة وأنا أقرأ للجاحظ. قلت: كيف استطاع الجاحظ أن يكتب كل هذه الكتب؟ كان التساؤل محيرا. وأنا قد بلغت العشرين من عمري من دون أن أكتب ولو مقالة صغيرة في حياتي.
أخذت قلمي بعد ذلك، وبدأت أكتب كل شيء بلغتي الخاصة. كتبت كلمات حسبتها يوم ذاك شعرا حرا، ثم دوّنت قصصا مما أعيشه، شعرت أنني بدأت أكتب. كتبت أشياء كثيرة، وأدركت بعد ذلك أنها لا تستحق القراءة.
الآن، عندما أعود إلى تلك الصفحات أشعر بالخجل، وأنا أقرأ كلماتها العارية ومعانيها المريضة، أحس وكأنها تطعن بسكين حاد أعماق قلبي، لركاكة أسلوبها وتفاهة مواضيعها.
حاولت مرارا ألا يراها غيري، خصوصا الذين يتقنون الكتابة، ويدركون، منذ الوهلة الأولى، مستوى المرء من خلال ما يكتب، كنت أخزنها في خزانتي، وبين كتب مدرسية قديمة خلفتها سنوات الابتدائية. وإذ بجدي يفتش ذات يوم مكتبتي، فتوقف عندها، وبدأ يقرأها بصوت جميل فصيح، متجاوزا أخطاءها اللغوية والإملائية التي غلبت عليها، كان جدي يقرأها بنوع من الاحترام، وكأنه يقرأ أشياء قيمة.
دخلت عليه، فلما رأيت تلك الصفحات في يديه، احمرّ وجهي، وتغير لون بشرتي خجلا، وتمنيت، في تلك اللحظة، أن تنشقّ الأرض فيمحّى أثري من ذلك البيت. نظر إلي مبتسما، وقال: كاتب صاعد تبارك الله وما شاء الله... أجبته محاولا إخفاء ذلك الخجل، فقلت: لا تسخر من صغيرك، فتلك السطور تعود إلى زمن قديم.
واصل جدي قراءته ولم ينتبه لما قلته، بينما راودني شعور أقرب ما يكون إلى الصدمة، إلى درجةٍ شعرت بدوران كل ما كان حولي في البيت، فكّرت في ترتيب باقي الكتب في الرفوف، حتى لا يبقى منها غير المذكرات التي كان يقرأها، آنذاك سيضطر لتسليمها، فأقوم بإحراقها والتخلص منها.
فجأة، توقف جدي عن القراءة، فلم أعد أسمع صوته، نظرت إليه، فوجدته ينظر إلي مبتسما. واصلت عملي، ثم نظرت إليه، فوجدته على حاله، ابتسمت ثم كسرت قيود الخجل، فقلت له: ادعوا لي الله يا جدي.
ابتسم، ثم قال: كل الناس يبدأون من الصفر، ولو لم تكتب هذه الكلمات في الماضي، لما استطعت أن تكتب اليوم. والآن، تكتب لتجد نفسك غدا قد قطعت مراحل مهمة في الكتابة...، هكذا كل الناس. السيء يا بني: أن تجد نفسك في آخر حياتك وأنت مضطر للعمل من البداية، حينما تكبر من دون أن تتعلم ستضطر للتعلم وأنت أكبر من المعلم...، انطلق يا بني، وليكن الله معك.
تحضرني هذه القصة دائما، وأنا أدعو أصدقائي إلى الكتابة، بينما يعتذر بعضهم، فيقول لي: أريد أن أصبح مدوّنا عن الأقل، لكنني لا أعرف البداية، ويقول آخر: أنا أكتب، ولكنني لا أتقن ما أكتب، فأضطر إلى التوقف عند ذلك الحد.
كل هذه الأعذار مقبولة، لكنها في الوقت نفسه لا ينبغي لها أن توقف عزيمتنا وسيرنا نحو الغاية. ومما ينبغي أن ندركه أننا سنكون في الحاجة إلى مرحلة أولى، نتعلم فيها، وما سوف نكتبه، في تلك الفترة، ليس بالضرورة أن يكون مفيدا وقيّما، وإنما يكفي إن حفزّنا ذلك قليلا، وفتح لنا الطريق السوي نحو المستقبل.
الفشل الذي في وسعه أن يقضي علينا، هو أن نوهم أنفسنا بأننا لا ولن نستطيع يوما أن نكتب شيئا جميلا، فالتغير من قوانين الحياة، وسنة من سننها. إلا أن ذلك يبقى رهينا بالتدرب والتجربة والمحاولة المستمرة.
تساءل أحدهم يوما عن سبب خضوع حيوانات ضخمة لحبل رقيق وصغير، يضعها المربون على أرجلها في حديقة، من دون أن تتجرأ يوما على قطعه، والتحرّر من تلك القيود، فأجابه المدرب قائلا: حينما كانت هذه الحيوانات الضخمة صغيرة، كنا نستخدم لها الحبل نفسه، وكان كافيا لتقييدها، فلما كبرت لم تستطع التخلص من تلك النظرة القديمة، فهي إلى اليوم، وإلى أن تموت: تعتقد أنها لن تقوى على التخلص من ذلك الحبل الصغير.
هذا حال ناسٍ كثيرين، فهم يكبرون، ومع ذلك لا يدركون أنهم قد يتخلصوا من قيود الطفولة وأعذارها، ولم يدركوا أنّ الوقت حان ليصنعوا مستقبلهم الزاهر، بعيدا عن الأعذار التي تخالف المنطق. وإلى اليوم، لم أفهم كيف يكون أقول: "لا أستطيع، ولن أقدر"عذرا للمرء في سن العشرين، وفي سن الثلاثين والأربعين" كذلك.
مصطفى العادل
مصطفى العادل
مصطفى العادل
باحث في اللسانيات العامة بكلية الآداب، جامعة محمد الأول-المغرب. باحث بمركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية. الأمين العام للمركز العربي للبحوث والدراسات المعاصرة. رئيس قسم الأدب واللسانيات البينية بمركز مفاد.صدر له كتاب "المدارس اللسانية وأثرها في الدرس اللساني بالمغرب". يعرّف عن نفسه بالقول "كل لحظة تأتيك فكرة، يلهمك الله نورا لتعبر به عن معنى، فكن دوما مستعدا بسيف القلم كي لا تهزم في معركة الإبداع".
مصطفى العادل