اختفاء لينين من مكتبتي

اختفاء لينين من مكتبتي

09 نوفمبر 2017

لينين في مكتبه في الكرملين (16/10/1918/Getty)

+ الخط -
خَصَّصت بعض الرفوف في مكتبتي لِما يعرف اليوم بالكتب الجميلة، وهي في الغالب كُتُبٌ ذات أحجام كبيرة، تَلُفُّهَا أغلفةٌ سميكة وأنيقة. تستوعب صُورا فوتوغرافية أو لوحات فنية، كما يمكن أن تستوعب أعمالاً في الهندسة المعمارية، وأخرى جامعة محتويات المتاحف، حيث تمتلئ صفحاتها ببعض صُور المنحوتات والأعمال الفنية لكبار أعلام الفنون في التاريخ. وقد اتسع مجال هذه الكتب، فأصبح يضم كتباً أخرى للحيوانات والسيارات والطائرات.. أما الجامع الأكبر لهذه الكتب، فيبرز في تحوُّلِها إلى كتب للزينة، إلا أنها، قبل ذلك وبعده، تُعَدُّ كتباً لِحِفظ الأوجه المبدعة لمختلف الفنون.
يَستوعب هذا الصِّنْف من الكتب كتب الهدايا التي تصلح لتأثيث رفوف المكاتب والصالونات، وهي كتبٌ ممتعة للتصفُّح والقراءة. صحيحٌ أنها لا تتضمن، في الأغلب الأعم، سوى تعليقات موجزة عن اللوحات والأعمال الفنية الواردة فيها، مع مداخل مختصرة للتعريف بمنجزات أصحابها وتقديم أعمالهم، إلا أنها تبقى، مع ذلك، من الكتب التي لا يمكن الاستغناء عنها. وقد انتبهت، في السنوات الأخيرة، في أثناء مراجعتي رفوف مكتبتي، إلى وجود كتابٍ تشير صورة غلافه إلى أنه يتضمن ألبُوماً لصور لينين داخل مكتبته، حيث يُعايِن النَّاظِر في صوره حجم المكتبة، ويُشاهد في بعض صوره الأخرى لينين وهو يقرأ جالساً وراء مكتبه، أو يتصفح بعض كتبه، واقفاً أمام رفوفها. كما يُشاهَد في صُور أخرى بصدد الكتابة والمراجعة، حيث يمتلئ الكتاب بعشرات الصور التي التقطت له من زوايا متعدِّدة داخل مكتبته.
تذكَّرت، وأنا أحمل الكتاب من مكانه وأضعه فوق مكتبي، أن عمره تجاوز أربعة عقود، فقد 
تلقيته هديةً من القسم الثقافي في السفارة السوفييتية في الرباط، نهاية ستينيات القرن الماضي، وكانت الثورة البلشفية ومنجزات لينين في سياقاتها، بمثابة عنوان كبير لخيارات سياسية وإيديولوجية سائدة، وصانعة كثيرا من مظاهر الصراع السياسي في عالمنا. تعجبت من صمود هذا الكتاب داخل رفوف مكتبتي، على الرغم من كل التحوُّلات التي عرفها العالم في الرُّبع الأخير من القرن الماضي. صحيح أن مكانة لينين ظلت محفوظةً في إطار ما حققه البلاشفة في ثورة أكتوبر 1917 من منجزات، إلاَّ أن استمرار وجوده داخل مكتبتي، دفعني إلى التفكير في أمور عديدة، تتعلق بقوة المعتقدات في التاريخ.. لقد أدركت أن استمرار حضوره فوق رفوف مكتبتي يرتبط بالإيحاءات المُصَاحِبة له.
تضمن ألبوم صور لينين في مكتبته، وبين كتبه، مجموعة من التعليقات أسفل الصور وبمحاذاتها، كما تضمن مقدمةً في التعريف به، وقد كتب ذلك كله باللغة الروسية التي لا أفك رموزها، إلا أنني كنت، في ضوء حماسي للينينية، أقرأها كما يحلو لي، فأفهم من حضور لينين بين كتبه أنه كان قارئاً جيداً للفلسفة والأدب، أو هكذا كنت أتخيَّل في حوار صامت مع صاحب الصور.
كنت أحرص على العودة إلى هذا الكتاب بين حين وآخر، أعود إليه كما أعود إلى كتب أخرى، تربطني بها علاقة صداقة مختلفة، عن علاقتنا العادية بكتبٍ كثيرة نقرأها ونتعلَّم منها، ذلك أن كتاب الصور الذي نتحدث عنه لم يكن كباقي الكتب، كان مجموعة صور لقائد سياسي في 
مكتبته، ولعل قوة الصور فيه مستمدةً، كما أشرت، من الإيحاءات التي كنت أَقْرِنُها بها، فقد تعلمت كثيراً من نصوص "الدولة والثورة" و"الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية".. حيث كانت هذه النصوص ترافقني في لحظات تصفّحي المتواصِل للكتاب، وتأمُّلي الصور التي يجمعها، وقد استمر الأمر سنوات عديدة، إلى أن انتبهت إلى اختفاء الكتاب من رفوف مكتبتي.
أتصور اليوم أن الحيز الذي احتله الكتاب في مكتبتي طوال المدة المذكورة يدعوني إلى التساؤل عن السر في اختفائه، فقد أدركت، لاحقا، أن المواجهة الفكرية والتاريخية التي انخرطت فيها في العقود الخمسة التي تعاقبت، ساعدتني، بأشكال مختلفة، على نوع من حسن التخلص من معتقداتٍ كثيرة تشبعت بها في سنوات الجامعة وما بعدها.
أدرك الآن أن عمليات التخلص من تركة وأعباء معتقداتٍ كثيرة في حياتنا، في علاقتها بالمتغيِّرات التي صاحبتها، هي التي منحت الكتاب المذكور مكانةً وسط رفوف كتبي، وهي التي جعلتني، قبل اختفائه من رفوف الكتب الجميلة في مكتبتي، لا أقترب منه.. صحيح أنني تلقيته ذات يوم في زمن مضى، هديةً ثمينة وملونة، وحملته مرفرفاً أنعم بأحاسيس منعشة.. وبقيت أتصفح صوره سنوات عديدة، إلا أن الانقلابات الكبرى التي عرفها العالم، في مختلف مجالات المعرفة، ولحقت شظاياها أنظمته في السياسة والفكر والقيم، جعلته يختفي من رفوف مكتبتي، بعد أن لم يعد لفكرته، ومُجْمَلِ الإيحاءات المقرونة بصوره، إمكانية للصمود في حياتي الثقافية الجديدة، ووسط رفوف الكتب الجميلة في مكتبتي.

دلالات

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".