الحرب الآتية بين عدو مقنّع وآخر مكشوف

الحرب الآتية بين عدو مقنّع وآخر مكشوف

09 نوفمبر 2017
+ الخط -
هم مجموعة من المثقفين، القادمين من مشارب يسارية وطائفية مختلفة. يلتقون أسبوعياً لمناقشة أمور سياسية تهمّهم. فهم على تماسّ مباشر مع المناخ المخيّم في البلاد. وهم أيضاً غير عقائديين، ولا مرتبطون "روحياً" بأي حزبٍ سياسي. ولكنهم أيضاً ليسوا من المؤمنين بخط الممانعة، وإن كان بعضهم يلين عليه أكثر من غيره. لذلك يأخذون ويعطون، ويتداولون أفكارهم بحرية، بلا حسيبٍ عليهم ولا رقيب. إذ لا عدسة تُمعن النظر فيهم، ولا مربط يحاسبهم على "هفواتٍ" أو "زلّات" فكرية قد يكونون ارتكبوها في أثناء إبحارهم بهذه الأفكار. 

منذ أسابيع، ومناخ الحرب مع إسرائيل مسلَّط عليهم، كما على بقية اللبنانيين. قبل استقالة رئيس الوزراء، وهي خطوة، في بلدٍ مثل لبنان، تعزّز احتمالات هذه الحرب. فكان نقاش مبكّر للحرب جدير بأن ينقل، وبحرية ايضاً، لما ينطوي عليه من حيرةٍ جديدة، تخرق سقفاً يُعتبر محرّماً، بمقاييسهم، الوطنية. أنقل هذا النقاش هنا، مع قليلٍ من المبالغة، بقصد توضيح الفكرة والذهاب بها إلى أبعد مما هو مأمولٌ في الكلام "الصائب سياسياً".
وسؤالهم: تحصل أم لا تحصل، تلك الحرب؟ قد لا تحصل. وقد تصل مقدماتها عند الذروة، فنكون أمام احتمالين. الأول، الأضعف، هو تجنّب أطرافها الحربَ، وسعيهم إلى البحث عن تسوية، أو صفقة، غير واضحة المعالم، تعفيهم من عاقبة تكاليفها. كيف تكون التسوية؟ وماذا تتضمن؟ هذا ما لا يجيب عليه مثقفونا، ولا يقدرون عليه. إذ إنهم خارج قرار الحرب أو السلم. ولكنهم يستعينون بالتجربة، فيتكهنون نوعٍا من المحاصصة الإقليمية؛ و"المحاصصة" مفردةٌ اخترعها اللبنانيون، نظرأً لتجاربهم الفذّة مع الصفقات التي يسمونها "تسويات".
ويبقى أن تجنّب الحرب سوف يمدّد "النعمة" الأمنية التي نحن عائشون في ظلها. نعمة نسبية، 
صحيح؛ لكنها جعلت بلدنا الصغير المضطرب، النقزان، المتنقل بقدمٍ من الريش، وأخرى من حديد... هو نفسه هذا البلد، جعلته النعمة النسبية ملاذاً آمناً للشعوب المجاورة لنا، أو حتى البعيدة، يلجأون إليه ليهنأوا بـ"جنّته الأمنية".
الاحتمال الثاني هو الأرجح برأيهم؛ أن الحرب حاصلة. التوقيت هو المجهول بالنسبة لهم. العيش تحت تهديد الحرب يجعلك تتمناها، لا لسببٍ سوى الخروج من قوقعة الخوف من اندلاعها؛ التحرّر من هذا الخوف من أجل خوفٍ آخر، ديناميكي، متحرك.. رغبة بالخروج تلامس أحيانا فرحة الأطفال باندلاع الحرب، لأنها تعفيهم من روتين المدرسة، ثقيل الظل.
المهم أن النقاش بلغ نقطة حرجة، عندما طرح أحدهم السؤال الذي لا بد منه: إذا وقعت الحرب، هل نقف مع إيران أم مع إسرائيل؟ والسؤال ليس "بريئاً" بالمطلق. لا يقول "الحرب بين حزب الله وإسرائيل"، أو "بين لبنان وإسرائيل". إذ يختصر المجتمعون كلام الزمان، ويرون أن قيادة محور الممانعة هي إيران، وليست حزب الله. ومن هنا، من محاولة الإجابة على هذا السؤال، إذ لا تبدو الإجابة عنه بديهية.. يتفرّع النقاش، فيتكوَّن "اتجاهان"، إذا جاز التعبير. الأول، الأكثر بديهيةً من غيره، يجيب بأننا "نعم" سوف نقف مع محور الممانعة. وحجته أن إسرائيل عدوّ تقليدي، له مطامع بأراضينا، ويحتل بعضها؛ وقفنا طوال عمرنا ضده، وقاتلناه بالسلاح، عندما كنا شباباً. ثم إن إيران، مهما كان، عدوة لإسرائيل؛ عدو عدوي هو صديقي، وانتصار عدو عدوي من مصلحتي.
هنا يقف رأي آخر، هو النقيض، ويقول إن الحرب القادمة تطرح عليه معضلة حقيقية. وإيران هي المتسبّبة بها، كما تسببت بالحرب السابقة، عام 2006. فهذه الدولة غرست مليشياتها المذهبية في المشرق العربي. يتباهى رسميوها "المعتدلون" بسيطرتهم على مصيرنا؛ بعدما قادوا، بحيوية ومهارة بالغتَين، تمزيق نسيجنا، الضعيف أصلا. أيادي حرسها "الثوري"،
والمليشيات التابعة له، ملطخة بدماء السوريين والعراقيين. ولا حاجة لسرد ما تبقى مما هو معروف ومكرَّر. ولكن يبقى أنه بهذه السطوة الملْموسة، استغنى القادة الإيرانيون عن خطاب "تحرير فلسطين"، بعدما تمكّنوا، فتأهلوا إلى رتبة دولة إقليمية عظمى أخرى. نحن سنكون وقود هذه الحرب، ربما السوريون معنا. وحتى لو نالت الصواريخ من عمق إسرائيل، فالخراب الأشدّ سيكون من نصيبنا. شبيهٌ بالخراب السوري العراقي. وربما أفظع. فمن منطلقٍ قوميٍّ عربي، أو يساري، أو علماني، أو وطني.. لا يجوز التغافل عن الشهية الإيرانية على المشرق السائب. ولا ينقصها إلا اتنزاع بقية حصتها من إسرائيل. مثل شهية إسرائيل يوم تأسيسها على أنقاض فلسطين، في قلب مشرقٍ أقل سيباناً. مع فرق واحد بينهما، أن إسرائيل عدو مكشوف، وإيران عدو مقنّع. 
إذا كانت هذه حجج الممتنعين عن تأييد إيران، فهل يكونون بالنتيجة مؤيدين لإسرائيل؟ وهنا المعضلة: أن نختار بينهما، على أساس من سيكون الأقدر على تعميم الخراب بيننا. النصر الإيراني سوف يضعنا أمام السيطرة الإيرانية، فيمتد "مجالها الحيوي" ويترسّخ، وصولاً إلى البحر المتوسط. فيما النصر الإسرائيلي سوف يضيف قبضة إسرائيلية جديدة، على الشعبين، اللبناني والسوري، بعد الفلسطيني. تتوسع إسرائيل بموجبه، تقضم أراضي إضافية، أو تكرّس احتلالها لها. خيارنا سوف يكون ساعتئذ بين "مجالٍ حيوي" و"احتلال". وربما يمتزج المعنَيان عند التقائهما بالأرض. وهذه معادلة شريرة، لا يد لنا فيها؛ طاقات غيرنا، المتفوّقة على طاقتنا، هي التي وضعتنا بمواجهتها. يمكن الاستغراق كثيراً في المثالب الأخلاقية والوجودية لهذا الخيار المستحيل. وخلاصتها أننا نقف عاجزين متفرجين، غير فاعلين، غير فاهمين، أمام صناعة الكيان الذي سيتحكّم بحاضرنا ومستقبلنا. والمعروف أن الحروب هي الأسرع في هذه الصناعة من بين آلات القدر الأخرى.
نحن خارج اللعبة تماماً. ومعضلة الحرب الحائمة فوق رؤوسنا ليس لنا فيها أي قرار. بل نحن محرومون فيها من اختيار حُماتنا، مجرّد اختيار.. وقد تكون هذه أعلى درجات غربتنا، ليس بعداً عن الوطن، حيث نسكن؛ إنما عن أنفسنا، مواطنين، وبشرا، وفي المقام الأخير مثقفين، لم يَعد للدور عندهم أي معنى، سوى الطواف حول ذواتهم.