هذه المطالبة بالاعتذار عن وعد بلفور

هذه المطالبة بالاعتذار عن وعد بلفور

08 نوفمبر 2017
+ الخط -
تطالب منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينتان، ومعهما الشعبُ الفلسطيني، بريطانيا بالاعتذار عن وعد بلفور، وما سبَّبه من ويلاتٍ لفلسطين وشعبها، منذ بدأ كيان إسرائيل يتبلور. وهذه المطالبة مهمَّة، وذات مغزى؛ كونها تستحضر معنى الظلم والبطلان الذي يمثلِّه ذاك الوعدُ المشؤوم، فعلا، وتعيد التذكير بلا قانونيَّته، وقد كان الأساسَ الأوَّل، سياسيًّا، لقيام "دولة إسرائيل"، وكان المُشجِّع لهجرة يهود أوروبا بين الحربين العالميَّتين، الأولى والثانية، إلى فلسطين، تلك الدولة التي قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني الذي دُمِّرتْ مقوِّمات وجوده، وشُتِّت؛ لمنع تشكل كيانيَّةٍ فلسطينية، فلم يكن يكفي احتلالُ أرضه، والقبض على مُقدَّراته، وطمس هُويَّته، بل لا بدَّ من إقصائه مكانيًّا، ولا يزال هذا الإقصاءُ مستمرًّا، كلما أمكن، وبقدر ما يمكن، كما نشهد من ارتدادات ضارّة باللاجئين الفلسطينيين في سورية ولبنان، في غمرة التناقضات الداخليَّة، والصراعات الدوليَّة والإقليميَّة، حيث أقلّ ما يكون: إجحافٌ جديد، يلحق بأبناء المخيَّمات واللاجئين، وهم الذين يمثِّلون الرمزيَّة الإنسانيَّة الصارخة لقضيَّة فلسطين، في أصل نشوئها.
موضوعيًّا، مطالبة السلطة الفلسطينية بريطانيا بالاعتذار، كيف تُفهَم؟ هل هي مطالبة بالاعتذار عن أصل الوعد؟ أم عن آثاره؟ أم هي مطالبة للتوظيف السياسيِّ بما يخدم ما يعترف العالمُ به، الآن، من حقِّ الشعب الفلسطيني بالخلاص من الاحتلال، وإقامة دولته الفلسطينية؟ تغلب على المنحى الذي تذهب إليه المطالبةُ الفلسطينية الرسمية الأبعاد المعنوية، والأخلاقية، وجزئيا المالية، لكنَّ الأغلب هو في محاولة توظيف ذلك، سياسيًّا، بما يعزّز مِن تحصيل الحدّ الأدنى من الحقوق السياسية الفلسطينية التي لم يأتِ الوعدُ على ذكرها، فالمطلوب تعديلُه، والحدُّ من آثاره المتمادية. ولا تملك السلطة الفلسطينية، بحكم طبيعتها، أبعدَ من ذلك، لا تملك فتْحَ النقاش، كما يُفترَض، على أصل الوعد، ومدى قانونيَّته.
وهنا موطن الفكرة، وجوهرها، إذ لا اتِّساق في الخطاب الفلسطيني الرسمي، (من دون أن 
يشكِّك ذلك، بسلامة المطالبة بالاعتذار)، فالمطالبة بالاعتذار تنسجم مع لا شرعية إسرائيل، وهو الخطاب الذي يطفو أحيانا، فلسطينيا، ولو تحذيرا، بأنَّ إمعان دولة الاحتلال باحتلالها، وتفاقُم الاستيطان، بل ومحاولة تكريس هذا الاحتلال، فعليًّا، وتنظيريًّا؛ لصالح احتفاظ إسرائيل الدائم بالضفة الغربية والقدس، ورفض التراجُع إلى حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، وذلك كله يجعل الفلسطينيين في حلٍّ من الاستحقاقات السياسيَّة والقانونيَّة لاتفاقات أوسلو، ومن الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير؛ فلا التزام من طرفٍ واحد، ما دام أنَّ دولة الاحتلال تراجعت فعليًّا عن الاتفاقات المُوقَّعة. فهل الاعتذار المطلوب معنويُّ الطابع؟ أو إنسانيّ الأثر؟ أم أنه ورقة مأمولة لإضعاف موقف إسرائيل، تفاوضيا، للضغط؛ للوفاء بما تتنصَّل من الوفاء به؟ الواضح من خطاب السلطة الفلسطينية أنَّه ينتقل من اللحظة التاريخية والتداعيات الخطيرة التي يستدعيها ذاك الوعدُ الذي تضافرت، حتى اللحظة، على شَرْعنته وتغذيته، الدولُ الكبرى، وأميركا في مقدمة هذه الدول، ينتقل من معاني تلك اللحظة، ويتجاوزها، إلى تعزيز مقتضيات اللحظة الراهنة، وهي الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. فالوضع القانوني والفعلي الذي تتموضع فيه السلطة الفلسطينية لا يسمح لها، فعليا، بفتح السِّجال كاملا، وإرجاعه إلى مبدأ المشكلة، وأساسها. إلا إذا سحبت اعترافَها بإسرائيل، وهذا يقوّضُ وجودَها؛ فهي مُقامة بموجب اتفاقات أوسلو، وبموجب الاعتراف بحقِّ إسرائيل بالوجود.
ليس هذا التقييد بالطبع على الشعب الفلسطيني الذي هو في الواقع أكبر من السلطة الفلسطينية، وحتى أكبر من منظمة التحرير، إذ هو صاحب الحقِّ بالأصالة، وبقدر ما يتخفَّف الشعب الفلسطيني، بقواه، ونخبه، وعموم أبنائه، في الداخل والخارج، من الارتهان إلى السلطة الفلسطينية، المرتهنة لتلك الاتفاقات المحجِّمة، بقدر ما يستطيع استثمارَ الذكرى المئوية لذاك الوعد، ثقافيا، وحتى قانونيا، لإبراز الجريمة المستمرِّة التي نجمت عن ترجمة وعد بلفور، بحقِّه وبوجوده.
وكما كان تجسيد ذاك الوعد في دولة محتلة علامةً على ضعف عام في الأمة؛ ولا يتحمَّل 
الشعبُ الفلسطينيُّ وحدَه المسؤوليةَ عنه، فكذلك اتفاقات أوسلو، واعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، جاء وسط حالةٍ عربية أفضَتْ إلى هذا الالتزام الفلسطيني الأُحادي، في غياب التوازن في القوى، وبعد أن تكرّست منظمة التحرير ممثِّلا شرعيًّا ووحيدا للشعب الفلسطيني؛ فأعفى ذلك (أو هكذا أحبّت نظُمٌ عربية أن تفهم) من المسؤولية، إلا من الدعم السياسي، والتشاور، وقليل من المواقف العملية. هذا إذا لم تكن في قسم منها، سلبيَّةَ الأثر في الفعل والتوقيت: تطبيعا معاكسا تماما للحالة، يتجاوز تلك الالتزامات العربيَّة الرسميَّة، بل ويتنكّر أدبيًّا، وأخلاقيًّا، لمعنى وجود شعب عربيٍّ، تحت احتلالٍ يتقوّى بذاك التطبيع، سياسيًّا، وماليًّا، ومعنويًّا. كما لا يتقوّى بسواه من أنواع الدعم الغربي، مثلا.
ومع ذلك يبقى الشعب الفلسطيني، ومعه عدالةُ القضيَّة، محطّ النَّظَر، عربيًّا وعالميًّا، وتمسُّكه بحقوقه هو المَجسّ الحقيقيّ، ومقاومته، بأشكالها الممكنة والباقية، ما بقي الاحتلال، المؤشِّر على رفض الخلل التاريخي الذي أحدثه وعدُ بلفور.