العولمة تنتصر لمنطق القوة

العولمة تنتصر لمنطق القوة

08 نوفمبر 2017
+ الخط -
تفاءل كثيرون من ناشطي العالم الثالث ومفكريه بقدرة عصر العولمة على انتشال دولهم الوطنية من حضيض الاستبداد والتخلف والرجعية، مطلقين العنان لأحلامهم الوردية بتشييد دولة حقوق الإنسان، الفردية والجماعية، ودولة القيم الديمقراطية وسيادة القانون، وبمجتمع تتحول فيه الرغبات والميول والعادات الغذائية والفنية، ومعايير الجمال الطبيعي والمصنع لتشبه تلك القائمة في مجتمعات المركز الحضاري، فضلاً عن سرعة انتقال المخترعات الحديثة والسلع والحاجات والضروريات لمجتمعاتنا، من دون أي قيودٍ داخليةٍ من الأنظمة القائمة، ومن دون أي شروط خارجية من الدول المتحضرة، كالتي توضع اليوم على بعض التقنيات الحديثة، لاسيما المرتبطة بتطوير الإنتاج الصناعي، أي باختصار تحول دولنا ومجتمعاتنا إلى صورة مطابقة لما هو سائد في دول المركز الحضاري. غير أن الواقع الحالي يشير إلى انتقائية دول المركز في تعميم القيم والمبادئ السائدة فيها لدول العالم الثالث، لتقوم العولمة الحقيقية على تعميم السلع الكمالية، وتعميم النمط الاقتصادي والمالي والتجاري والسياحي فقط، وهو ما يخدم مصالح المركز الاقتصادي، ويخدم استمرار هيمنته وسيطرته يوماً بعد يوم. لكن وعلى الرغم من وضوح العولمة المطبقة، إلا أن بعضهم مستمر في أحلامه وأوهامه المرتكزة على عزم الغرب المتقدم على تعميم قيم العدالة والمساواة السياسية، انطلاقاً من أوهام دعم الدول المتقدمة للحقوق وحمايتها وتغليبها على منطق القوة، عبر انتصارها للفكرة وللمنطق وللحق، من دون أي اعتبار لهيمنة القوة واستبدادها، معتبرين أننا نعيش عصر سيادة العدالة والقانون، وتمكين الشعوب والجماعات من جميع حقوقها، مهما كانت الظروف والحيثيات، ومهما كانت المصالح السياسية أو الاقتصادية الضيقة لهذه المجموعة أو الدولة أو لتلك.
وبمعنى آخر، تصر هذه الفئات الاجتماعية على تجاهل تناقض أحلامهم الوردية مع توالي 
الأحداث الفعلية والواقعية، والتي تعكس سيادة منطق القوة وتحكمه في مسار عصرنا الراهن، وإن اختلفت وتعددت مظاهر القوة أحياناً. ومن هذه الأحداث، يبرز أخيرا تجاهل المجتمع الدولي جميع أشكال الإجرام والقتل والإرهاب المنظم بحق الشعب السوري خصوصاً، وبدرجة أقل تجاه غالبية الشعوب العربية التي ثارت في بدايات عام 2011، فعلى الرغم من تصريحات ومواقف إعلامية ورسمية غربية مؤيدة لحق الشعوب في التعبير عن مطالبها ورأيها وموقفها السياسي، وحقها في اختيار نظام الحكم، منظومة وأفرادا، إلا أنهم قد اكتفوا بمتابعة جميع المجازر التي يرتكبها النظام بحق المدنيين، وخصوصاً الثائرين منهم، من مجازر الاعتقال والتصفية تحت التعذيب، أو نتيجة ظروف الاعتقال غير الإنسانية، إلى مجازر الأسلحة المحرمة دولياً، وأبرزها الأسلحة الكيمائية التي ثبت مراراً وتكراراً مسؤولية النظام عنها أو عن غالبيتها، مروراً بمجازر السلاح الجوي والقصف بعيد المدى، بالإضافة إلى أكثر أنواع الجرائم همجيةً، من قبيل القتل والتنكيل المباشر، كما حدث في أعقاب استعادة القوات الموالية النظام السوري سيطرتها على مدينة حلب على سبيل المثال. ما يعكس، وبكل وضوح، استمرار تغليب أبشع مظهر لمنطق القوة، والمتمثل بالقوة العسكرية أو قوة الإجرام على منطق الحق، بحجج وذرائع كثيرة وواهية، قد تكون آخرها مكافحة الإرهاب الأصولي!
فكيف لنا أن نبرّر سحق المطالبين بحقوقهم، بذريعة مواجهة إجرام آخر، وكأننا نقبل ونرضى بسحق منطق الحق والعدالة غير المدعوم بقوة عسكرية أو اقتصادية تحميه، وتدافع عنه، تماشياً مع مصالح وغايات دولية مغايرة تجد في الإرهاب الأصولي خطرا على مصالحها الاستراتيجية السياسية والاقتصادية، وبتجاهل متعمد للأسباب الخفية والعلنية التي أدت إلى تصاعد الإرهاب الأصولي، وبتجاهل مماثل لأدوار الدول وأجهزتها السرية (المخابرات) في توليد الإرهاب وتعميمه، من أجل حرف المسار العام، ومن أجل سحق منطق الحق، وتغليب منطق القوة، القوة القادرة على فرض المصالح الدولية والإقليمية على المنطقة، مهما كان الثمن.
كما يمكننا العودة إلى أحداث ووقائع كثيرة سابقة ولاحقة تنتصر لتغليب منطق القوة، وإن تسترت بذرائع وحجج مختلفة، كتشريع احتلال أفغانستان والعراق، بذريعة القضاء على "القاعدة" وتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل، علما أن الوثائق والحقائق المسرّبة والمنشورة أثبتت، أخيرا، كذب الادعاءات الدولية المبرّرة للاحتلال، لاسيما فيما يتعلق بأسلحة العراق السرية، والتي لم نجد لها أي أثر، وهو ما اعترف به، أخيرا، رئيس الوزراء البريطاني أيام الاحتلال أو الاعتداء، طوني بلير، فضلاً عما عانته الدولتان المحتلتان بعد الاحتلال من تدهور أوضاعهما الاقتصادية والاجتماعية، وتصاعد أعمال العنف والقتل الداخلية والخارجية، بفعل القوى المحتلة، لتصل إلى درجات قياسية في قتل المدنيين، نساء ورجالا وأطفالا، وتهجيرهم وتعذيبهم. وطبعاً، لا يسعنا تجاهل الشاهد الأقدم والأبرز لتغليب المصالح الدولية، ولتغليب منطق القوة على منطق الحق في دعم الكيان الصهيوني وحمايته، حتى اللحظة الراهنة، إن لم نقل إننا أمام زيادة في دعم الاحتلال وحمايته على الرغم من تصاعد إجرامه وهمجيته.
وأخيراً، ها نحن اليوم أمام مظهر قانوني أو دستوري من مظاهر الانتصار لمنطق القوة في التعامل مع مطالب بعض الفئات والشرائح لتشييد دولتهم القومية الكتالونية، والمستند إلى 
التمسك بنص الدستور الإسباني حرفياً، من دون أي اعتبار لمقدار تطابقه مع حق الشعوب في تقرير مصيرها، أو تمثيله هذا الحق، بالإضافة إلى تجاهل غالبية الأطراف الإسبانية والغربية موقف الغالبية الكتالونية التي تريد إجراء انتخابات مبكرة أو استفتاء شعبي معترف به ومحمي حول الانفصال فقط، لاسيما بعد ممارسة الحكومة الإسبانية درجات عالية من القمع للحيولة دون نجاح الاستفتاء. كما تعكس ممارسات الحكومة الكتالونية جانبا آخر من استغلال القوة الإعلامية والقانونية (من وجهة نظرهم للقانون) من أجل فرض خيارهم السياسي، فقد اعتمدت الحكومة الكتالونية على نتائج الاستفتاء أخيرا لتعلن عن إقامة الجمهورية الكتالونية، من دون أن تكترث للظروف غير الطبيعية التي رافقت الاستفتاء، وأدت إلى انخفاض المشاركة الشعبية، الأمر الذي لا يعكس بالضرورة رأي الغالبية الكتالونية وموقفها. وعليه، يمكننا ملاحظة تمسك جميع الأطراف بمظاهر قانونية، لحماية خيارهم السياسي الممثل لمصالحهم الفئوية، من دون أي اعتبار لحقوق الشعوب، وفي مقدمتها حق الشعب في تقرير مصيره.
في المحصلة، ووفقاً لجملة الأحداث السابقة، وغيرها الكثير، يمكن القول إننا في عصر الانتصار لمنطق المصلحة المحمية، والمدعومة بجميع صنوف القوة الممكنة، حيث لم تعد القوة العسكرية الفاعل الأول والمباشر دائما، بل تعدّدت مظاهر القوة، لتشمل مجالي القانون والإعلام المتحكم بهم سراً من القوة الاقتصادية والعسكرية، لتتخفى بذلك عملية سحق المستضعفين وطمس الحقائق والحقوق بمظاهر متعددة وحضارية ظاهريا.