ليت الشباب يعود

ليت الشباب يعود

07 نوفمبر 2017
+ الخط -
في تحقيق تلفزيوني ميداني عن واقع مناطق مشتعلة في سورية، يقول شاب من المقاتلين: نحن الجيل الوحيد الذي لن يقول في يوم ما: ليت الشباب يعود. كان الشاب في عمر الإنتاج والإزهار، لكنه يحمل السلاح، ويبدع في فنون القتال. ويبدو كما لو أنه قفز فوق الزمن، واستهلك جل عمره في سنوات قليلة، ليقتحم الكهولة، متنازلاً عن أحلامه وطموحاته.
لم يكن لدى معظم الشباب السوري، قبل اندلاع الانتفاضة في مارس/آذار 2011، أي مشروع واضح، أو انتماء تنظيمي أو فكري أيديولوجي. يدل على هذه الحقيقة التخبط الذي وقعت فيه الثورة في الفترة الأولى لانطلاقها، واضمحلال دور التنسيقيات الشبابية التي بدأت متحمسة وواعدة، أو محاصرة هذا الدور. ثم الحال التي وصلت إليها البلاد، بعد ما يقارب سبع سنوات من الحرب، وانعدام القدرة على التكهن بالنهايات التي ستؤول إليها سورية. وهذا نتيجة حتمية لعقود من الاستبداد والاستلاب والشمولية وإقصاء الشعب عن صنع حياته وقراراته، وجعله سلبيًا يفرض عليه أسلوب الحياة من القمة، مع قتل الحراك السياسي، وعدم وجود أحزاب معارضة قادرة على استقطاب طاقات الشباب.
ليس الحديث هنا عن مآلات الثورة، ولا ارتهان جيل الشباب إلى المعارضة السياسية أولاً التي فرضت نفسها ممثلا شرعيا للثورة السورية، ولا عن انحراف الحراك السلمي نحو العسكرة بعدما قوبل بالعنف، لكن الحديث يرمي إلى تلمس وجع هذا الجيل الشاب الذي دُفع بقوة جبارة إلى دخول سن يأس جماعي، على الرغم مما يبدع في الميدان الذي زج فيه باعتباره خيارا وحيدا، ميدان الحرب، بل صناعة الحرب بكل متطلباتها. وبما ينزلق إليه من تبديدٍ لطاقاته في ظل الحرب، بما تفرض من سلوك وممارسات يرقى بعضها إلى مراتب الجريمة.

الشباب الذين اندفعوا في صحوة مفاجئة إلى الميادين والساحات، يصدحون منادين للحرية، كانوا يبحثون عن مكانهم، عن أرضٍ يمتلكونها، لتبدأ منها وعليها مسيرة امتلاك الكينونة والإحساس بوجودهم، مدفوعين بطاقة الحياة والامتلاء بها، الطاقة التي تتفجر إبداعًا في هذا العمر، ليس فقط تتفجر إبداعًا، بل هي تطالب بحقها بأن تكون، وهذا منطق الحياة من أبسط أشكالها إلى أكثرها تعقيدًا، يمثله النوع البشري من الكائنات. كان لديهم أحلام وطموحات، وربما كانوا على مشارف أن يكون لهم مشاريع. لكن الأحلام أجهضت، وتحولت الطموحات، والمشاريع بنيت لهم في مكان ما، ودفعوا إليها على أنها مجال إبداعهم المقدس. ولقد أبدعوا.
كيف أبدع الشباب السوري في زمن الحرب التي فرضت عليهم خيارا وحيدا؟ ليست الحرب حمل بندقية، أو اعتلاء دبابة، أو إطلاق قذيفة، أو حتى التحليق في طائرة ترمي قنابلها أو صواريخها أو براميلها. الحرب منظومة متكاملة، تديرها عقول ومهارات ومخيلة، تحتاج إلى فرق متخصصة ملحقة، لا تقل أهمية عن استعمال السلاح، ورسم الخطط الحربية وإدارتها، خصوصا في عصر العولمة والثورة الرقمية والإنترنت والميديا. الحرب مستنزف رهيب للطاقات، ولقد استنزفت طاقات كثيرة، حتى إن جبروتها طاول البنى النفسية لبعض الشباب، فكان ما كان من سلوك معادٍ لمنظومة القيم والأخلاق.
السؤال هل كانت الأجيال الشابة مؤهلةً حقا لقيادة الثورة، خصوصًا إذا ربطنا السؤال بالنتيجة التي آلت إليها الأمور، وبعد أن حُرفت الثورة، وظهر بعد أشهر من انطلاقتها أن الأمر لم يعد يشبه الثورة التي انطلق الشعب السوري فيها، سعيًا خلف أحلامه المشروعة، وبعد تحول الشعب بتأثير صراعات وتناقضات دولية إلى أداةٍ لتصفية حساباتٍ، وإدارة صراعاتٍ بين قوى خارجية إقليمية ودولية عديدة، هذا السؤال إشكالي، يجب العمل على تفكيكه، بالتوازي مع دراسة الواقع والأحداث والتغيرات التي جرت وتجري في المنطقة، للإفادة من التجربة التي من البديهي القول إنها جزء من التاريخ الدائم التشكل في مسيرة صنع المستقبل.
أثبت الشباب السوري أنه يمتلك الطاقة الإبداعية والقدرة الإنتاجية، والدليل أن الحرب الدائرة، خلال هذه السنوات السبع، كان هذا الشباب أدواتها، فبعضهم برع في فنون القتال، كل فئةٍ بحسب الجهة التي تنتمي إليها، ليس دائمًا لأنهم يريدون الحرب، بل ربما لأسباب قهرية، أو بسبب التغرير بهم، أو بسبب التوحش الذي عاشوه وعايشوه، وبرعوا في التنظيم، وفي التمريض والإسعافات وفرق الإنقاذ، برعوا في المراسلات الحربية، وفي الإعلام والميديا. برعوا في أدبيات الثورة وفنونها، خصوصا في البدايات السلمية في زمن التظاهر في الساحات، قبل أن يحملوا السلاح، في المجتمع المدني وإدارة الحياة المدنية في ظل الحرب. برعوا في كل شيء تحت مظلة الحرب، وابتعدوا مكرهين عن ميادين الحياة التي كانوا يتحضرون لها، بعد أن تركوا جامعاتهم ومعاهدهم ومدارسهم ومحترفاتهم وحرفهم، وربما قصص حبهم.
كانت لدى هذا الجيل الذي تشظى، وشُلت جهوده عن مواصلة حراكه السلمي، المدني الطامح إلى الديمقراطية والحرية ووحدة الشعب السوري ضمن دولة المواطنة، طاقة الحياة، لكنه فقد بوصلته، مثلما فقد قراره. صار الاصطفاف والارتهان أمرًا واقعًا، كان يمكن للانتفاضة في بداياتها السلمية المدنية أن تكون جامعًا لطاقات الشباب، لكن العنف الذي استولد عنفًا مضادًا كان للقوى الطامعة والمؤثرة دور كبير في ترسيخه ودعمه. وأدى الدفع باتجاه العسكرة إلى هذا التشظي، فتجزأت الطاقات الشبابية، وتحولت بذور الإبداع إلى أراضٍ متباينة، لتنتعش وتنتج فيها مروية بالعقائد والإيديولوجيا المتنافرة، مضطرمة بأسباب الفتنة الأهلية، مدجّجة بخطابات سياسية، فكان أن حمل بعضهم السلاح، أو عمل في ما يخدم الحرب من أنشطةٍ ملحقة، وهدرت طاقاتهم الخلاقة في صناعة الموت، بدلاً من الحياة.

لو ترك الحراك الشبابي يخوض تجربته بمفرده، يستفيد من أخطائه، يقوّم أداءه، ربما كان سيطوّر حراكه، ويبني شيئًا فشيئًا منهجه، وينظم أولوياته، فهو جيلٌ يملك من مقومات الذكاء والإبداع ما يكفي، والدليل إنجازاته التي حققها في كل الميادين التي كانت خياراتٍ مفروضة في العديد منها، وفي بعضها الآخر تجلى إبداعه، على الرغم من شراسة الحرب في الفنون، بمختلف أشكالها. كذلك الشباب السوري الذي هاجر لاجئًا إلى جهات العالم الأربع، معظمه استثمر طاقته في صناعة حياةٍ بديلة، وفق الظروف الجديدة التي ألفى نفسه فيها. هذا الجيل الذي ينتمي إلى بلادٍ لها ماضٍ ضاربٌ في القدم في تشكل الحضارة الإنسانية، يحمل في جيناته إرثًا ثقافيًا غيبته الحرب، وقبلها عقود الاستبداد، جرحت الحرب، بل انتهكت، أغلى ما لديه، انتهكت حياته التي لا يمكن أن يعيشها المرء مرتين، انتهكت زمنه، وسطت على فرص عمره، على شبابه المحسوب باليوم والشهر، الشباب الذي لا يُؤجّل، ولا يمكن تدوير أحلامه ومشاريعه إلى مراحل متأخرة. صادرت الحرب أعماره، واستنزفت طاقاته، واستحلبت الموتَ ناضجًا مكتملاً مرويًا بالدماء، كيف لمن سيخطئه الموت أن يتحسر على شباب مضى، ويقول: ليت الشباب يعود يومًا؟ أي ذاكرةٍ معجونةٍ بالدم وتقطيع أوصال الأوطان والفقد والهلاك وآلام الغربة ومعاناتها يمكن أن تدغدغ المشاعر وتستولد الوجد في شجنٍ عذبٍ، يراود الإنسان في عمر الشيخوخة؟
إنها الكارثة الكبرى، الكارثة السورية الأعظم، الفاجعة التي أصابت الصميم، ولا مسكّن لأوجاعها، الجرح النازف على شباب حرم حلمه، حرم من متعة عمره، حرم من أي ذاكرةٍ غير ذاكرة القتل والعنف والدماء والموت. جيل لن يستطيع حتى أن يقول: ليت الشباب يعود.