جلست والكذب بعينيها

جلست والكذب بعينيها

06 نوفمبر 2017

الوجوه الثلاثة (لؤي كيالي)

+ الخط -
لم أتمكّن من إسكات فضولي الصحافي، ومقاومة إغراء خوض المغامرة المقترحة في مجاهل إحدى مناطق عمّان الشرقية، المكتظة الضاجّة بالصخب، حيث البيوت متلاصقة، وشرفاتها الصغيرة مزينةٌ بأصص الورود، ورائحة الطبخ تنبعث في الفضاء قبيل موعد الغداء، علقت في أنفي رائحة قدحة الثوم والكزبرة التي تسكبها الأمهات في العادة بسخاءٍ كبير، فوق طنجرة الملوخية الخضراء، إعلانا لا يمكن مقاومة إلحاحه بأن الطبخة أصبحت جاهزة، غير أن المهمة غير الجليلة التي تصديت لها، في لحظة تهور غير محسوبة، كانت تستدعي أقصى درجات الحيطة والحذر والانتباه، فحاولت تجاهل رغبتي في الطعام اللذيذ، ذلك أنني وافقت على مرافقة مجموعة من الطالبات الجامعيات إلى حيث بيت الفتاحة الشهيرة، والتي تقصدها النساء المخذولات من كل حدب وصوب، والمعروفة خصوصا في أوساط الجامعات، حيث الصبايا القلقات على مستقبلهن العاطفي الباحثات عن الحب والفرح والمستقبل المشرق.
ومن حسن حظهن أن قارئة الفنجان، ذائعة الصيت التي جلست، والنصب والكذب والاحتيال بعينيها، الفتاحة صاحبة القلب الكبير تتقاضى، في العادة، 50 دينارا في مقابل القراءة بواسطة الزيت، حيث تدهن كف الزبونة بزيت الزيتون، بعد أن تقرأ بعض الآيات القرآنية، وكذلك تتقاضى مبلغ 20 دينارا لقراءة الفنجان التقليدية، بعد الانتهاء من شرب القهوة وقلب الفنجان، غير أنها، من باب الإنسانية والشهامة والكرم، تكتفي بأسعار مخفضة للطالبات اللواتي يتزاحمن على باب بيتها، تتساهل معهن بأسعار مخفضة، فتكتفي بثلاثين دينارا للقراءة بواسطة الزيت، وبعشرة دنانير لقراءة الفنجان (يا بلاش).
التزمت بوعدي لهن بالمراقبة الصامتة، تأملت محتويات بيتها، بأثاثه الفاخر والثريات الكريستالية والستائر الثقيلة، حيث قادتنا صبية في مقتبل العمر إلى حجرة المعلمة الكبيرة، خفيفة الإضاءة، وهي متربعة تنفث أرجيلتها الثقيلة، وترمقنا بنظرات حادّة، ضمن فضاءٍ من الغموض والرهبة الضرورية، لإحداث الأثر النفسي المطلوب. توقفت عند الأساور الذهبية التي تثقل يديها، مصدرة صوت خشخشة كبيرة كلما تحرّكت، وهي تهذرب بالأكاذيب، وتبيع الأوهام للصبايا المبهورات المضللات، وهي بالمناسبة ليست فائقة الذكاء، ولكن يمكن القول إن لديها القدرة على قراءة الشخصية، وبالتالي تحديد ما يمكن أن يشغل بالها. والحق أن الأمر لا يتطلب مقدارا كبيرا من الذكاء، كي نحزر، بدون كبير عناء، شواغل فتاة عشرينية على أهبة التخرج، ومخاوفها وأحلامها وطموحاتها. بديهي أنها واقعة في الحب، ومن السهل جدا استدراجها إلى فخ الأمل الخادع. ودائما نسمع القصص الركيكة المستهلكة ذاتها.. ثمّة في الأفق عريسٌ، بمواصفاتٍ جميلة، يطرق بيت أبيها، وآخر ثقيل الظل من أقارب أبيها يريدها، وهي غير مهتمة. وامرأة حسود، بناتها قبيحات، مكتنزة، وتضع منديلا فوق رأسها (ووجهها مدور مثلا!)، وهذا وصف، كما هو معروف، ينطبق على معظم نساء المنطقة.
تغار هذه المرأة الحقودة من جمال تلك، ويبدو أن ذلك ما دفعها إلى اللجوء إلى السحر، فألقت ماء مقروء عليه على عتبة بيت الفتاة، ما أوقف حالها. وهنا تعرض المعلمة التي تشبه نادية الجندي في فيلم "الباطنية" خدماتها في تحضير عملٍ قد يكلف غاليا، لكنها تؤكد سره الباتع الذي سوف يبطل العمل الأول، وينقذها من شر الحسد. تبحلق الصغيرات انبهارا بالنصابة ذات الأساور والمفردات المنمقة، يدفعن مصروفهن اليومي بكل اقتناع، يغادرن البيت الذي تفوح منه رائحة البخور، مأخوذاتٍ ببراعة المرأة، منتظرات أن أشاركهن طقس الانبهار. لم يتوقعن بأي حال أن أقرعهن بشدة على مستوى السذاجة المستهجنة لطالبات علمٍ، لم تزدهم الجامعة إلا سطحية. وأحذرهن من مغبة دخول بيوت مجهولة، بأي ذريعة، لأن الأمر قد يتعدّى سلب أموالهن إلى احتمالاتٍ بالغة الخطورة، لا قدر الله.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.