حشرجة الإرهاب في تونس

حشرجة الإرهاب في تونس

05 نوفمبر 2017
+ الخط -
سقط في تونس، قبل يومين، شهيد آخر غدرت به يد الإرهاب، فقد كان الرائد رياض بروطة ضابطا ساميا يؤمن حركة المرور في الصباح الباكر، أعزل بلا سلاح، يحاول رفقة منظورين (عونين آخرين) تخفيف الازدحام المروري الذي يخنق العاصمة، وخصوصا أمام مجلس النواب. الرجل من وحدة شرطة المرور التي ليس من مهامها المباشرة ملاحقة الإرهابيين. ولكن يبدو أن عقيدة هؤلاء لا تفرق بين شرطي و آخر، وتضعهم جميعا تحت خانة "الطاغوت". كان الشاب يهوي بسكينه، وهو يصيح بهذه المفردة ويكبر. فارق الرائد الحياة بعد يومين، مخلفا ثلاثة أطفال وزوجة حاملا. 

أكدت تحقيقاتٌ أن الجاني الذي تم القبض عليه في الخامسة والعشرين عاما، وهو خريج الجامعة التونسية، يقطن في حي شعبي في العاصمة ذي كثافة سكانية قياسية. ويقدّم هذا الشاب ملمحا نموذجيا للإرهابيين التونسيين. شاب في مقتبل العمر، خريج جامعة، من حاملي الشهادات الجامعية العاطلين عن العمل، فقير، هدّه الإحباط ومشاعر الخيبة، فتلاعبت به دعايات تلك الجماعات، وكان فريستها.
وبقطع النظر عن الأسباب الكبرى، أو الفردية، التي تسوق شبابا إلى محرقة الإرهاب، فان هذه الجريمة قد تمثل نقطة مفصلية في تاريخ الإرهاب في تونس. علينا أن نتذكّر أن الموجات غير المسبوقة من الإرهاب قد بدأت منذ سنة 2011، بعيد أشهر من اندلاع الثورة، لما كانت حكومة الباجي قائد السبسي آنذاك تسير البلاد في فترة انتقالية حرجة. وقد طاولت أولى العمليات الإرهابية الجيش التونسي في منطقة نائية، حين استهدفت عناصره، وتواصلت في ما بعد هذه الضربات الغادرة، للنّيل من مؤسسة الجيش التي كانت تكابد انفلاتا أمنيا غير مسبوق، انهارت قيم المؤسسة الأمنية من شرطة وحرس وطني (قوات درك)، وازداد النسق الجهنمي لتلك العمليات، لتوقع عشرات الضحايا من منتسبي مؤسستي الجيش والأمن معا، في مواقع
متعدّدة في الجبال والطرقات ومراكز الأمن والثكنات في عملياتٍ مباغتةٍ، على شاكلة مناهج قتال الشبكات الإرهابية. وتطورت نوعيا، حين فجرت تلك الجماعات قافلة الحرس الرئاسي، ونالت فيما بعد من مؤسسات سياحية، وثقافية (متحف باردو)، منتقلة من نيْل المؤسسة الأمنية - العسكرية إلى ضرب المرافق الحيوية للاقتصاد التونسي، لشل اقتصاد البلاد.
كان الوضع المنهار في الجارة ليبيا قد شجّع تلك الجماعات على البحث عن موطئ قدم جديد، وقد تكون الضربات الجوية التي استهدفت الجماعات الإرهابية في مدينة سبراطة، وقد قضت على مئات منهم، هي التي شكلت حاضنة لهم (خصوصا التونسيين)، باعتبارها قاعدة خلفية، دفعت بعضهم إلى التفكير في البحث عن بديل، واحتلال موقع قدم عبر غزوةٍ، رجّحوا أن تكون مدينة بن قردان الحدودية وجهتها، نيتهم في ذلك تأسيس عمارة سلفية، أو في الحد الأدنى، الانتقام من عملية سبراطة، بعد نجاحاتٍ حققها الأمن التونسي، حين قضى على بعض قياداتهم الميدانية. يعد خبراء عديدون أن تلك المعركة شكلت نقلةً نوعيةً في تاريخ حرب تونس على الإرهاب، بعد ان كبدت القوات التونسية خسائر فادحة، قضت على جل قياداتها البارزة، وضيقت الخناق على حركتها، فتراجعت إلى الجبال والأحراش، ما سمح لتلك القوات فيما بعد بتفكيك بقايا الخلايا النشطة واكتشاف كميات مهولة من السلاح المخزّن في غابات الزياتين، وصحراء تلك المناطق الحدودية.
كان من أثر تلك الخطوات أن تراجعت العمليات الإرهابية بشكل ملحوظ، ولم تسجل منها سوى عمليات معزولة، وتسارع نسق تفكيك الخلايا النائمة، وبكثافة ملفتة. كما تم إجهاض العديد منها، في عمليات استباقية نوعية، بعد أن استعادت بعض الأجهزة الأمنية عافيتها، مستفيدة من الدعم الشعبي لها، على المستوى النفسي خصوصا.
كانت معركة مدينة بن قردان، كما أشير سابقا، منعطفا في الصراع مع الإرهاب الذي شوّه ثورة التونسيين، وسرق جزءا من شبابها وأحلامها ومنح ذريعة للتآمر على الثورة التونسية، والربيع العربي عموما، وإجهاض طموحات الشعوب في التخلص من الاستبداد.
خال بعض التونسيين أن الإرهاب يطوي صفحاته الأخيرة، في تاريخ مؤلم. ولكن بعد عملية الطعن التي نفذها ذلك الشاب، أخيرا، يطرح خبراء عديدون فرضية تحرير مبادرة "الذئاب المنفردة"، بعد أن أنهكت تلك الشبكات، وتمزّقت أوصالها التنظيمية، وشحّت مواردها. يبدو أن تضييق الخناق على تلك الجماعات، وغياب حاضنة اجتماعية لها، دفعها إلى النزول أحيانا إلى القرى، بحثا عن مواد غذائية وأغطية. إنها ذئاب منفردة، لكنها منهكة، غير أن ذلك لا يمنع أن تكون شرسة، حتى وهي في حشرجتها الأخيرة.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.