خمسون عاماً على الثورة الاشتراكية في اليمن

خمسون عاماً على الثورة الاشتراكية في اليمن

30 نوفمبر 2017

شبان ببلدة شبام يحتفلون بميلاد جمهورية جنوب اليمن (1/1/1967/Getty)

+ الخط -
ولدت، في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، الدولة الاشتراكية الحقيقية الوحيدة التي عرفها الشرق الأوسط. هي "جمهورية جنوب اليمن الشعبية"، التي أطلق عليها اسم جديد في العام 1970 "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية". ولدت الجمهورية الاشتراكية بعد أربع سنوات من الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني. وكانت بريطانيا تحكم، بصفة "غير مباشرة"، محمياتٍ ريفيةً في شرق عدن وجنوبها، حيث كان تدخّلها قاصراً على "المشورة السياسية"، وتزويد زعماء القبائل بالسيولة والأسلحة، غير أنها كانت احتفظت بحكم عدن، التي تُعدُّ دولة ــ مدينة، بصفة مباشرة. كان اقتصاد الأخيرة يعتمد على مينائها الدولي المهم، والمطل على مداخل البحر الأحمر وقناة السويس، بدرجة أولى، وعلى موقعها أكبر قاعدة بحريّة بريطانية شرق السويس، بدرجة ثانية.
لم تقتصر حرب التحرير على المواجهة بين البريطانيين والقوميين الساعين إلى الاستقلال، إنّما شكّلت أيضاً مجالاً لصراع عسكري بين حركتي التحرير المتنافستين، الجبهة القومية للتحرير وجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل. كانت للأولى قاعدة ريفية بالأساس، وكانت مكوّنة من الفرع اليمني لحركة القوميين العرب في تحالفٍ مع قبائل محلية. وشملت قيادتها أعضاء من جميع هذه المنظمات، والذين برزت أسماء بعض منهم في السنوات اللاحقة: سالم ربيع علي المعروف باسم "سالمين" (1935 - 1978)، عبد الفتاح إسماعيل (1939 - 1986)، علي ناصر محمد (1939)، وعلي سالم البيض (1939)، وقد تولّى كلّ من هؤلاء قيادة المنظمة، ثم الحزب الاشتراكي اليمني الذي ورثها. ثمّ ترأّس كل منهم الدولة نفسها فترات مختلفة، وتورّطوا جميعاً في الصراعات الدامية التي مزّقتها.
في المقابل، تعود جذور جبهة تحرير جنوب اليمن المحتلّ إلى الحزب الاشتراكي الشعبي. وقد تمركز نشاطها بالأساس في عدن، معتمداً على قوّة الاتحادات العمّالية هناك، ومتبنياً إيديولوجيا أقرب إلى اشتراكية حزب العمال البريطاني والاشتراكية على الطريقة الناصرية. من أبرز
زعماء الجبهة الراحل عبد الله الأصنج (1934 - 2014)، وعبد الرحمن الجفري (1943)، الذي لا يزال نشطاً في المطالبات بانفصال جنوب اليمن. وبفضل تمتعها بدعم شعبي أقوى، وقوات عسكرية في المناطق الريفية، نجحت الجبهة القومية للتحرير في الانتصار على جبهة تحرير جنوب اليمن المحتلّ في عدن، وسيطرت خلال عام 1967 على جميع المناطق النائية التي غابت عنها الأخيرة إلى حدّ بعيد. وقد اعترفت بها بريطانيا متأخرةً على أنّها حركة التحرير الرئيسية، وسلّمتها رموز السلطة، بعد مفاوضات الساعة الأخيرة السريعة في جنيف.
كان ذلك الانتصار نقطة تحوّل لدى الحركات القوميّة العربيّة، وفي إيديولوجيتها، ففي وقت سابق من تلك السنة، مثّلت هزيمة مصر ودول عربية أخرى في حرب الأيام الستّة ضدّ إسرائيل نهاية شعبية الناصرية، باعتبارها أيديولوجيا اشتراكية قومية مناهضة للاستعمار، وهو وضع تأكّد في اليمن، بعد انتصار الجبهة القومية للتحرير على خصمها الناصري، جبهة تحرير جنوب اليمن المحتلّ. وفي السنوات التالية، كانت الجبهة القومية للتحرير في طليعة تحوّل نحو اليسار، شهدته أجزاء مهمة من حركة القوميين العرب في المنطقة، مثلما حدث بظهور الجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين، وتحوّل جبهة تحرير ظفار إلى الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي المحتلّ، وكذا ظهور منظمات أصغر في مختلف الدول العربية. وقد اتفقت هذه الحركات على أنّ هزيمة يونيو/ حزيران 1967 كانت بسبب اشتراكية "البورجوازية الصغيرة" التي روّجها الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وعلى أنّ حركات وتحليلات أكثر راديكالية في نزوعها الماركسي وحدها القادرة على هزم الصهيونية، وإسقاط الأنظمة الملكية الاستبدادية في المنطقة، وعلى تحسين ظروف معيشة الفقراء.
يجدر التذكير هنا بأنّ ذلك الزمن كان مفعماً بالحماس الثوري في الغرب أيضاً، وسط دعم قوي للجبهة القومية لتحرير فيتنام، ونضالات أخرى مناهضة للاستعمار في أفريقيا وآسيا، وأيضاً، وبطبيعة الحال، أحداث مايو/ أيار 1968 في فرنسا نفسها. خلال العقد التالي، تركّزت النقاشات يساراً على الاختلافات الإيديولوجية داخل العقيدة الماركسية، كما انطبع عليها أثر الصراع الصيني ــ السوفييتي النشط في ذلك الحين، بتوجهاتٍ تمتدّ من الماوية والتروتسكية إلى اشتراكية سوفييتية أكثر تقليدية. وقد تنامت هذه الاختلافات المريرة، على الرغم من وقوع كل هذه الحركات تحت الهجوم المباشر من الأنظمة التي كانت تسعى إلى إطاحتها، وهي أنظمة كانت مدعومة، بدرجات مختلفة، من الغرب. كانت الحرب الباردة حينها تدمغ النضال الإيديولوجي والسياسي والاقتصادي بأبعاد دولية.
كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الدولة العربية الوحيدة التي تمكّنت فيها إحدى هذه الحركات من الوصول إلى السلطة، حيث تقمّصت دورها الثوري إلى أبعد مدى، فمدّت يد الدعم للمنظمات الفلسطينية الأكثر راديكاليةً، وللجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي المحتلّ، بالإضافة إلى حركات ثورية إقليمية أخرى في الجزيرة العربية وخارجها. وقد كفل هذا التوجّه لها أعداء مباشرين من الحكّام السابقين المنفيين في السعودية وعُمان، وحتّى في الجمهورية العربية اليمنية، والذين قاموا، بدعم من مضيفيهم، بعمليّات توغّل عسكرية، أجبرت النظام على التركيز على المصاريف العسكرية والدفاعية على حساب التنمية. كما كانت لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مكانتها في الحرب الباردة التي سمحت بحصولها على الدعم العسكري والاقتصادي من دول العالم الاشتراكي، من الاتحاد السوفييتي إلى كوبا، ولاحقاً من نظام منغستو في إثيوبيا. كان الغرب يرى في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حينها قاعدةً أماميّة للمعسكر الاشتراكي في العالم العربي.
وتُفسّر المواقف الثورية للجبهة القومية للتحرير نبذها ورفضها من المَلَكيّات المطلقة في 
المنطقة، والتي شعرت بالتهديد من ذلك الحماس الثوري. إذ كان هؤلاء ينظرون إلى الجبهة محفّزا للحركات الثوريّة في دولهم، في وقت كانت فيه الإيديولوجيات الراديكالية، على الصعيد الدولي، في صعود. وبالإضافة إلى التدمير العسكري والعزل الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، قامت هذه الدول، وخصوصا السعودية، بالردّ، من خلال إطلاق السلفية العلمية في أرجاء العالم الإسلامي، وهو أمرٌ ساهم فيه بصفة كبيرة الارتفاع الكبير لموارد النفط بعد 1973. وقد بقي هذا الاتجاه إلى حدّ كبير موضع تجاهل اليسار الذي كان غارقاً بعمق في صراعاته الداخلية الإيديولوجية وغير الإيديولوجية، فاستغرق، لهذا السبب، عشرات السنين، حتى استوعب أن الإسلام الراديكالي كان آخذاً في الظهور كإيديولوجيا شعبية كبرى منافسة له، لا سيما بين الشباب.
واقتصادياً، واجه النظام الجديد ظروفاً صعبة جدّاً، وكان بقاؤه محلّ شكّ منذ البداية: انهار اقتصاد عدن مع إغلاق قناة السويس، بعد هزيمة الدول العربية في يونيو/ حزيران 1967 ورحيل البريطانيين وقاعدتهم، الأمر الذي تلاه رحيل القطاع الخاص، بأصوله المالية، عن عدن. وبينما تمتعت المناطق النائية بفرص محدودة، مثل الصيد في بحر العرب العامر بالأسماك، وشيء من الزراعة، لم يتم العثور على أي أثر للنفط في هذا البلد. على الرغم من هذا، وعلى الرغم من المحيط العدائي، أدخل نظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سياسات اجتماعية واقتصادية مهمّة، فقد وفّر التعليم للجميع، والخدمات الصحية المجانية، ومنح المرأة المساواة الرسمية، وعارض القبائلية التي كانت تعتبر آلية للتعبئة السياسية المنافسة. وبدعم مالي من المعسكر الشرقي، ومن بعض المؤسسات المالية الدولية، والعربية، من الكويت أساسا، نُفّذت هذه السياسات الاجتماعية والاقتصادية تدريجياً خلال السبعينيات والثمانينيات. ونتيجة ذلك، كان اليمنيون العاديون، غير المنخرطين في النشاط السياسي، قد حقّقوا مستوياتٍ معيشية معقولة، وتقلّصت الفجوة بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية من حيث ظروف العيش، بصورة واضحة، فقد عمل النظام الذي كان يضم عدداً من ذوي الأصول الريفية على ضمان عدم إهمال الريف، على الرغم من ضعف الكثافة السكانية فيه ومساحته الشاسعة. وقد كانت الدخول، على تواضعها، كافيةً لضمان أساسيات الحياة، سواء من خلال الزراعة أو الصيد البحري أو الخدمات.
للمفارقة، لم يكن الانخراط في السياسة مأمون العواقب على المدى الطويل، فلم تنل المعاملة السيئة فقط تلك القلّة القليلة الباقية من قيادات زمن الاحتلال البريطاني، أو من جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل، بل كانت الجبهة القومية للتحرير ذاتها تعاني تمزّقا داخليا، فكان الصراع الصيني ــ السوفييتي جزءاً من خلفية الصراعات الداخلية في الجبهة القومية للتحرير، إذ حوّلت نفسها من جبهة قوميّة إلى حزب اشتراكي أكثر تقليدية. وهُزم التيار الأكثر ثوريةً بقيادة سالمين على يد التيار البيروقراطي ذي التوجه السوفييتي بقيادة عبد الفتاح إسماعيل. وباستيعابها المنظمات الشيوعية والبعثية المحلية، تحوّلت الجبهة الوطنية للتحرير إلى الحزب الاشتراكي اليمني في 1978، بعد معاناتها من عدد من محاولات الانقلاب والتطهير وصراعات داخلية أخرى طوال العقد السابق. كان أكثر تلك الصراعات شراسة إطاحة سالمين، وهو العضو البارز في اليسار "الماوي" الأكثر راديكاليةً ضمن ثالوث رئاسة البلاد منذ يونيو/ حزيران 1969.
تواصل الصراع داخل الحزب الاشتراكي اليمني، خلال سنوات حياته الثلاث والعشرين وحتى اليوم، ليس واضحا إلى أي مدى كانت هذه الخلافات شخصية أو إقليمية أو إيديولوجية. الواضح، في المقابل، أنّ مواقف النظام أصبحت، بشكل ملحوظ، أكثر ليونةً خلال هذين 
العقدين. لم تتكرّر أحداث راديكالية منذ "مظاهرات الأيام السبعة" عام 1972 التي طالب المتظاهرون فيها بخفض الأجور لدعم الدولة أمام صعوباتها المالية، في لحظة قُرئت على أنّها أوج تأثير سالم ربيع علي (سالمين). كما أنّ دعم المجموعات الثورية الدولية المتطرفة في الشرق الأوسط وغيره تضاءل حتى توقّف تماما أواخر السبعينيات. وفي الثمانينيات، تمّ إنشاء علاقات دبلوماسية مع السعودية وعُمان، فانتهت الحروب الإعلامية، وتلقّى النظام بعض الدعم المالي، في حين لم يحظ بحثه عن استثماراتٍ اقتصادية من القطاع الخاص، من المهاجرين، ومن مصادر أجنبية أخرى، بأكثر من نجاح جزئي. وقد توجّت الصراعات الداخلية بما عُرفت مجازياً بـ"أحداث" 13 يناير/ كانون الثاني 1986، عندما اغتيل عبد الفتاح إسماعيل، وأغلب قياديي الثورة "التاريخيين" الباقين، خلال اجتماع للمكتب السياسي، برئاسة علي ناصر محمد الذي كان يُنظر إليه قائدا أكثر براغماتية، منذ نفى سلفه عام 1980.
قوّضت هذه الأحداث النظام، حيث تضاءلت مصداقيته أمام الشعب: كان الصراع يُرى أنّه يفتقد أي مبرر إيديولوجي أو مبدئي، وأنّه مجرّد تنازع للسلطة. وفي وقتٍ كان فيه الاتحاد السوفييتي ذاته يشهد تغييرات هائلةً، من شأنها أن تؤدي إلى زواله، أصبح نظام ما بعد 1986 مشابهاً للديمقراطيات الغربية، لكن بعد فوات الأوان. وقد قاد اكتشاف النفط على الحدود مع الجمهورية العربية اليمنية، إضافة إلى أزمةٍ مماثلةٍ في نظام الأخيرة، إلى خيارين: الحرب أو الوحدة. كانت الوحدة اليمنية الشعار الشعبي الأبرز خلال عهد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. وكان إرساؤها بحثٍّ من علي عبد الله صالح، رئيس الجمهورية العربية اليمنية في ذلك الحين، وعلي سالم البيض القائد الرديف للحزب الاشتراكي اليمني، العمل الأكثر شعبية من بين ما قام به كلّ من الرجلين. في 22 أيار/ مايو 1990، وبعد 23 سنة، لم يعد لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وجود، فأصبحت جزءاً من الجمهورية اليمنية.
وكما يتضح اليوم بظهور حركة انفصالية تتزايد شراستها بمرور الوقت في المجال الجغرافي السابق لليمن الديمقراطي، فإنّ الوحدة كانت عملية معقّدة وغير مرضية، لكنّ أسماء الزعماء الباقين من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لا تزال بارزة في النقاش السياسي في اليمن، على الرغم من تقدم أعمارهم، وعلى الرغم من حقيقة أنّ قلّة منهم، إن وجدت، لا تطالب بأي شكل من الولاء للاشتراكية.
(ترجمة بديعة بوليلة)
avata
avata
هيلين لاكنير

كاتبة بريطانية

هيلين لاكنير