خرافة في سيناء

خرافة في سيناء

30 نوفمبر 2017
+ الخط -
ما حدث في مسجد قرية الروضة شمال سيناء ليس إرهابا، ولم يقم به إرهابيون. ما حدث لا يوجد له وصف حتى الآن في قاموس لغة البشر أو الشياطين، أو أي مخلوقات فضائية أخرى، ولا توجد أي أبجدية قادرة على توصيفه. ما حدث ليس له شبيه إلا المجازر التي ارتكبها قتلة محترفون، ينتمون إلى "واحة الديمقراطية" في المنطقة، إنها بصمة دير ياسين وقبية وصبرا وشاتيلا. لنقرأ رواية شاهد عيان، نجا من الكارثة، كما رواها لإحدى الصحف، لنقترب ولو قليلا من فهم "الخرافة" التي وقعت.
قال الشاهد، الذي رفض الكشف عن هويته، "كما هي العادة!"، إن مسلحين يقدّر عددهم بنحو 15 داهموا مسجد الروضة في أثناء خطبة الجمعة، ونادوا على سبعةٍ من شيوخ الطرق الصوفية الحريرية الأحمدية، واقتادوهم أمام ساحة المسجد، ومن ثم أطلقوا عليهم وابلا من الرصاص، ثم تلا المسلحون بيانا باسم ما يسمّى أمير الحسبة، حذّروا فيه من اتباع الطرق "الشركية". بعد أن تعالت هتافات المصلين داخل المسجد استنكارا ورفضا للجريمة، فتحت العناصر المسلحة النار بشكل عشوائي تجاه المصلين في الداخل، وعمدوا إلى قتل كل من حاول الفرار خارج أسوار المسجد، ثم أحرقوا السيارات في المكان، لمنع نقل المصابين، قبل أن يغادروا المكان على متن ثلاث سيارات رباعية الدفع.
وفي تفاصيل أخرى نشرتها "العربي الجديد"، نسبة لمصادر قبلية، أن مسلحين فجّروا عبوة 
أمام المسجد في الدقائق الأخيرة من صلاة الجمعة، ومن ثم اقتحموا المسجد وأطلقوا النار على عشرات المصلين، ثم أحرقوا بعض سياراتهم المتوقفة في محيط المسجد. وبغرض قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين والعسكريين، أحرق القتلة سيارات المصلين وقطعوا الطريق المؤدية إلى المسجد. وقد صادف الهجوم الذكرى السنوية الأولى لإعدام تنظيم ولاية سيناء الشيخ سليمان أبو حراز شيخ الطريقة الصوفية، والذي اعتقل فترة لدى التنظيم قبل نشر فيديو إعدامه، وهو في عامه التسعين. وكان التنظيم قد نشر، في حينه، صوراً لأحد عناصره يحمل سيفاً ويقطع رأس رجلين مسنين، اتهمهما بأنهما "طاغوتان يدّعيان علم الغيب". المسجد "الضحية"، كما تقول المعلومات، بناه مؤسس الطريقة الصوفية في سيناء، الشيخ عيد أبو جرير. ولهذا يأتيه الصوفيون من كل المناطق القريبة للصلاة فيه، كما أن 90% من سكان قرية الروضة هم من أتباع الطريقة الصوفية!
انتهت الرواية، وهي قابلة للتصديق، فهي منسجمة، إلى حد كبير، مع سياقات ما يجري في سيناء من حربٍ هي أقرب إلى الفوضى منها إلى أي شيء آخر. ويدرك من زار سيناء أن السيطرة الأمنية التقليدية على واحد وستين ألف كيلومتر من الأرض متنوعة الجغرافيا، ما بين سهول وجبال ووديان سحيقة، ضرب من المستحيل. والأهم من هذا أن منطقة بهذه المساحة، وتقع على تخوم الكيان المجرم إسرائيل، اعتدنا أن يكون مصدر الإرهاب الحقيقي في بلادنا والعالم، قد تكون ساحة خصبة لعبثه وتدخلاته، عبر شبكة معقدة من العملاء و"قصّاصي الأثر" الذين يشكلون فصيلا مميزا من جيش العدو الصهيوني.
تبدو الصورة في غاية التعقيد، لكن صاحب المصلحة الوحيد في إعطاء عمليات سفك الدماء في بلادنا طابعا مذهبيا وطائفيا هو كيان العدو فقط، وهو لا يعنيه، لا حجم الضحايا ولا مصلحة حلفائه من النظام الرسمي العربي، مهما قدّموا له من "حسن نوايا" أو تحالفات، ما دام الدم المسفوك ليس يهوديا.
تقول القراءة المعمقة للخرافة السيناوية، وبقية خرافات القتل الأعمى، إن ثمة صناعة إرهاب معقدة، تطبخ وتعد في مختبرات القتلة الصهاينة، ويجري تنفيذها بأيدي عملاء عمي القلوب والأبصار، تحت عناوين "جهادية" زائفة، والغرض ضرب أي مشروع نهضوي إسلامي أو قومي، وتكفي إطلالة سريعة على "العشرية السوداء" في الجزائر، وما كشف منها من أسرار، لإدراك هوية الأصابع الخفية التي تسفك دمنا بهذه الطريقة الخرافية.
الإطلالة منسوبة لإجابة رئيس الحكومة الجزائري الأسبق، علي بن فليس، على سؤال بشأن 
كيفية تخلص الجزائر من الإرهاب الذي فتك بها حتى أواخر التسعينيات، حيث سئل: كيف تمكنتم في الجزائر من القضاء على ظاهرة العنف والقتل، والتي استمرت سنوات عديدة؟ يقول الراوي، وهو صاحب السؤال: نظر إليَّ السيد بن فليس، وأخذ نفسا عميقا مع تنهيدة بسيطة. قام عن مقعده، وطلب مني أن نسير سويا بمحاذاة الشاطئ، وقال: في أحد الأيام استدعاني الرئيس بوتفليقة إلى مقره، فوجدت عنده السفير الأميركي، ومعه ثلاثة أشخاص آخرين، تبين أنهم من المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، طلب مني بوتفليقة الاستماع لما سيقولون. بدأ السفير بالكلام قائلا: هل ترغبون، يا سادة، أن تنتهي حالة العنف والقتل في الجزائر؟ فأجابه الرئيس بوتفليقة: طبعا وبدون شك.
استطرد السفير قائلا: حسنا، نستطيع أن ننهي لكم هذا الوضع وبسرعة. ولكن وحتى نكون واضحين، لدينا شروط واضحة، يجب أن توافقوا عليها مسبقا. أشعره بوتفليقة بالموافقة، وطلب منه أن يكمل. قال السفير: أولا، عليكم إيداع عائدات مبيعاتكم من النفط لدينا في أميركا. ثانيا، عليكم إيداع عائدات مبيعات الغاز في فرنسا. ثالثاً، عدم مناصرة المقاومة الفلسطينية. رابعاً، عدم مناصرة إيران وحزب الله. خامساً: لا مانع من تشكيل حكومة إسلامية، على أن تكون شبيهة بما لدى تركيا.
وافق الرئيس بوتفليقة على هذه الشروط متأملا إخراج الجزائر من حالة القتل والفوضى التي كانت تعصف بالبلاد. استطرد السفير الأميركي: حسنا، سنقوم بدورنا بالتحدث مع كل الأطراف المعنية لإعلامهم باتفاقنا. سأل بوتفليقة: ومن تلك الأطراف؟ فأجاب السفير: فرنسا وإسرائيل و... (بلد عربي ثري). صُعقنا من ذلك، وتساءل بوتفليقة: وما علاقة هذه الدول بما يجري لدينا؟ أجاب السفير والابتسامة الصفراء على وجهه: البلد العربي يقوم بتمويل شراء السلاح من إسرائيل التي ترسله إلى فرنسا، وهذه عن طريق ضباط في الجيش الجزائري مرتشين، يتعاملون معها، يوصلونها إلى الجماعات الإسلامية المتطرّفة.
بقية الرواية غير مهم، فقد تم كل شيء، وتوقفت العشرية السوداء، حيث توقف الدعم والتمويل للإرهابيين، وزود الأميركان القوات المسلحة الجزائرية بإحداثيات لمواقعهم وأماكن وجودهم، حيث قضت القوات المسلحة عليهم خلال فترة بسيطة.
انتهت القصة، وثمّة قصص وخرافات كثيرة، في سيناء وغيرها، يمكن أن تنتهي، بالطريقة نفسها، إن توفرت "النوايا" وتوقفت الأصابع الخفية، ومنها وفي مقدمتها أصابع إسرائيل وحلفائها العرب، عن العبث بدم أبناء هذه الأمة.