كتاب مازال حياً

كتاب مازال حياً

29 نوفمبر 2017
+ الخط -
احتفلت الأوساط الفكرية والفلسفية المغربية بذكرى نصف قرن على صدور كتاب "الأيديولوجية العربية المعاصرة"، للمفكر المغربي عبد الله العروي، الذي قال في المناسبة إنه كان يتمنّى أن يصبح كتابه متجاوَزًا في العالم العربي بعد مرور خمسين عاماً على صدوره، "لكن للأسف ما زال الكتاب يحتفظ براهنيته". ومعنى ذلك أن ما دعا إليه الكتاب من تحرّر ونهوض وتنمية لم يتحقق، وجدول عمل الفكر العربي كما كان قبل نصف قرن، إذا لم نقل إنه رجع إلى الخلف. وصنّف العروي، في كتابه ذائع الصيت، اتجاهات الفكر والسياسة في العالم العربي إلى ثلاثة، الشيخ ورجل السياسة وداعية التقنية، ووضع كل واحد في خانة. الشيخ لا ينفكّ يرى التناقض بين الشرق والغرب في إطاره التقليدي، أي نزاعاً بين النصرانية والإسلام، أمُّ المشكلات عنده تتعلق بالعقيدة الدينية ولا نهضة ولا تقدّم إلا بالرجوع إلى الطريق الأول الذي سار عليه السلف الصالح.
ويعتبر رجل السياسة أمَّ المشاكل في الشرق، كما في الغرب، الاستبدادَ، يطالع روح القوانين، سيما الصفحات البليغة التي يشرح فيها مونتسكيو مساوئ الاستبداد، فيشعر بالحقد يغمره، لأن الدولة في العالم العربي كانت في خدمة الحكام وحدهم، وأملاك الناس كانت دائماً مهدّدة، والتجارة محتكرة، والضرائب باهظة، والقضاء خاضعاً لأغراض المصالح. هكذا يبرز الزعيم الجديد، وهو رجل قانون وسياسة، يمزج دعوة روسو بدروس منتيسكيو. يفهم مثال الديمقراطية على شاكلة النظام البرلماني الانكليزي. لقد شخّص الزعيم السياسي داء المجتمعات العربية القديمة والحديثة، فاستقى من ذلك الدواء: الحكم استبدادي، فوجب انتخاب مجلس نيابي، كان النظام ينشر الجهل، فوجب نشر التعليم. ولكي يخرج من جلباب الشيخ، قال الزعيم السياسي إن الاسلام لا يفرض أي نظام سياسي على المسلم، ولا تعوزه الأدلة العقلية والنقلية.
التيار الثالث، حسب العروي، يمثله داعية التقنية (التكنولوجيا)، لا هو محام ولا قاض ولا طبيب ولا أستاذ ولا صحافي بل ابن عطار أو ابن فلاح، كان مجهولاً مهملاً لا يسمع صوته بين كلمات الشيخ، وصراخ الزعيم السياسي، يقول إن الغرب ليس ديناً ولا فكراً ولا سياسة فقط، هو قوة مادية، أصلها العمل المرتكز على العلم التطبيقي. هذا ما يقرّره داعية التقنية، ساخرًا من أوهام الشيخ والسياسي، داعياً إلى الصناعة وامتلاك القوة، ضارباً مثال اليابان، فدينها أبعد عن التوحيد، وتاريخها مليء بالعنف، وشعبها أكثر ميلاً إلى الخضوع، فلماذا تفوق اليابانيون في وقت وجيز؟ يجيب داعية التقنية إنهم قصدوا مباشرة إلى سر الحضارة الغربية، التصنيع، فلنفعل كما فعلوا. الثقافة غاية شريفة، لكنها تأتي بعد اكتساب مهنة خاصة. الداعية الجديد لا يقرأ التراث، ولا يؤوله، يزيحه كلياً عن اهتمامه، ويقول إنه لولا سفن كرومويل ما فرضت بريطانيا سطوتها على العالم، ولولا صناعة نابليون ما وصلت فرنسا إلى ما هي عليه، الاستبداد لا يمنع التقدم والتمدّن، إن لم يكن شرطاً له.
ما زالت هذه الخطاطة التي اقترحها العروي لقراءة اتجاهات الفكر والسياسة في العالم العربي صالحة إلى حد بعيد، لقراءة اتجاهات الرأي في هذه المنطقة الضائعة من جغرافية العالم، لكن ما حصل أن التيارات الثلاثة كلها وصلت إلى الحكم وفشلت، وكلها بقيت محكومةً بثابت واحد هو الاستبداد. صار الشيخ أصولياً متشدّداً، ونزل من عقلانية محمد عبده إلى أصولية حسن البنا إلى جهادية سيد قطب إلى تكفيرية مصطفى شكري، وصولاً إلى بن لادن والظواهري والبغدادي. وحصيلة هذا التيار معروضة اليوم على طول تيار الدم. أما رجل السياسة الليبرالي، فبعدما تعب من النضال والدعوة إلى الحرية وفصل السلطات والعمل النيابي، ارتمى في حضن الاستبداد، خوفاً من الشيخ الأصولي الذي اتسع نفوذه في المجتمعات الفقيرة والمحافظة. ولم يبق من ليبرالية رجل السياسة سوى الشعارات التي لم يعد يلتفّ حولها إلا القليلون. أما داعية التقنية فبقي معلقاً بين مجتمع محافظ لا يسمع، وغربٍ لا يؤمن بنقل العلم والتكنولوجيا خارج بيئتهما الغربية، فخفت صوته، ولم يعد يظهر سوى في برامج التكنوقراط، بلا فكر ولا وعي، في تنكّرٍ قاتلٍ للسياسة، وقدرتها على تغيير المجتمعات.. هكذا انتهت نماذج العروي الذي تحسّر لأن كتاباً ألفه قبل نصف قرن لم يصبح متجاوزاً، وهذا معناه أن موضوعه مازال قائماً.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.