معارك يلاقي الربيع

معارك يلاقي الربيع

28 نوفمبر 2017
+ الخط -
ليس ربيعًا أخيرًا يا معارك، فلا تبتئس يا ابن المفازات المؤبدة.
أدركُ مبلغ حسرتك، لكنها ليست المرة الأولى التي يخذلك فيها الربيع، يا صديقي، فأنت جزء من الصحراء، وتعرف أن البدو، اعتادوا أن يخرجوا لـ"ملاقاة الربيع"، كلما سمعوا عن بقعة هطل عليها المطر، مستبشرين بمساحةٍ خضراء تعيد إليهم توازنًا مفقودًا مع "الأصفر" الذي يكسو كل اتجاهاتهم.
هي مفارقة غريبة يا معارك، تخص الأرض العربية وحدها، بين سائر جنبات هذا الكوكب، وكل السر يكمن في "ملاقاة الربيع"، فهذا الفصل الذي يلحق العالم الآخر إلى عقر داره يضنّ على العرب، ويخذلهم كل مرة، ولا يجدون بدًا من ملاقاته، والاجتماع به، غير مطاردته من مكان إلى آخر علّهم يظفرون به.
لعلك تذكر، يا معارك، كيف كان يجمع أهل الصحراء أمتعتهم، ويصطحبون أهلهم وأبناءهم ومواشيهم، في رحلة مطاردة الربيع، وما أكثر ما يكون الإنذار "كاذبًا"، تمامًا على غرار فجر الصحراء الكاذب، أيضًا، غير أن ذلك لم يكن يمنعهم من المحاولة، مرة تلو أخرى؛ لأن الربيع في عرفهم صراع بقاء. ستقول لي إن الأمر مختلف هذه المرة، وإن الربيع المقصود لم يعد يقتصر على مساحة عشبٍ ومرعى، بل يعني "ملاقاة الحرية"، والظفر بمساحةٍ للتنفس، وتطهير الرئة من غبار السجون والقضبان، ووأد "بنات" الأفكار الحرّة.
وستقول إنك، وقومك، كنتم قد حزمتم أمتعة البشرى، حين سمعتم عن مطرٍ هطل في الصحراء المصرية قبل أعوام، فاندفعتم بأرواحكم المتعبة لـ"ملاقاة الربيع" هناك، غير أن الفجيعة كانت كبيرة، حين باغتتكم بحيرةٌ من سراب ودماء، أجهضت أحلامكم بربيع الحرية، خصوصًا أنها صحراء رائدة ذات تأثير على كل الصحاري العربية الأخرى، لكن مؤامرات "شيوخ" من قبائل أخرى أطاحت أحلامكم، واستبدلت سرابًا بسراب.
وستقول، أيضًا، إنكم شددتم الرحال، أيضًا، إلى الصحراء الليبية التي لمع فيها بريق ربيعٍ من بعيد، بحثًا عن عزاء ذاتي بالربيع الذي خذلكم في مصر، غير أن الفجيعة تكرّرت ثانية، بفضل "الشيوخ" أنفسهم، ثم تكرّرت الفجائع في الصحاري اليمنية والسورية.
قل ما شئت، يا معارك. لكن لا تستسلم الآن.. قدرك أن تخوض ألف معركةٍ ومعركةٍ، لتظفر بنصف ما تظفر به أمم أخرى، ربما تتكبد أقل من هذه الخسائر بكثير، لتحقق الحلم كاملًا.
أنت في مواجهة حلفٍ شيطاني، أطرافه جغرافيا وتاريخ وغزاة وأذناب. وعليك أن تعبر ألف مفازة وصحراء، وحقول سراب ودم، لتبرهن للجميع حقك في "ملاقاة الربيع"، أينما كان في صحرائك المحكوم برملها وحريتها من "الربع الخالي" في الجزيرة العربية، إلى "الحمادة الحمراء" في المغرب العربي. وعليك أن تجعل "الرُّبع" ربيعًا يضمخ الأرض العربية كلها.
وعليك، يا معارك، أن تعرف، كذلك، أن "الربيع" لا يفرّ من صحرائك عبثًا، لأنك رضيت، عبر التاريخ، بحكم شيوخ يستبدلون ولاءاتهم في اليوم الواحد ألف مرة.. شيوخ يتداولهم الغزاة، كما يتداولون أرخص العملات النقدية في بورصاتهم وبنوكهم.. شيوخ لم تعد تعني لهم العروبة أكثر من "زوجةٍ رابعة" مرشحة للطلاق في أي لحظةٍ تشاؤها محظية "تل أبيب" التي توشك أن تبسط ساقيها على صحرائك كلها.
وكان عليك أن تعلم، وأنت تشد أمتعتك، أن "ربيعك" مختطفٌ، يا معارك، مختطف حتى قبل أن تبلغه، ما دمت لم تدافع عنه بأظافرك وأضراسك، لأن الحرية فادحةُ الثمن، يا صديقي، ولا يستقيم أن تنتظرها منّة من أي أحد، مهما بذل لك من وعود خادعة، تعلم جيدًا بحكم علاقتك الأزلية بالسراب، أنها أقل شأنًا من أن تعيرها أدنى التفاتة. فلا تصدّقهم، بعد الآن، يا معارك، لا تصدّقهم، واقلب الصحراء على رؤوسهم، قبل أن تمضي إلى "ملاقاة" ربيعك.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.