الحريري ولبنان بعد العودتين

الحريري ولبنان بعد العودتين

27 نوفمبر 2017
+ الخط -
أعلن رئيس الحكومة اللبناني، سعد الحريري، في مشهدٍ لا يخلو من الدراما والإثارة السينمائية، عدم تفعيل استقالته، نزولاً عند طلب الرئيس ميشيل عون له بالتريث، وإفساح المجال للتشاور حول الوضع اللبناني في مجمله. وهذا يعني أن الاستقالة المزمعة كأنها لم تكن، ولو مؤقتاً، إذ هو أصلاً لم يتقدّم بها رسمياً. ليظل المشهد مفتوحاً على كل الاحتمالات، ما لم تتبلور مواقف جديدة، تدفع باتجاه التهدئة، واستئناف الحريري رئاسته الحكومة، من دون ضغوط أو منغصات عليه، وعلى لبنان.
سلط الزخم السياسي والشعبي الذي نجم عن غياب الحريري المفاجئ في الرياض ضوءاً مكثفاً على الأطر المحيطة بثوابت المشهد اللبناني، فتكشّف أن ثمة حدوداً للتمترس خلف المواقف السياسية، إذ يجب حصر تلك المواقف فيما دون حدود السيادة والكرامة الوطنية.
بالطبع، لا يسري هذا التحليل على كل القوى اللبنانية، وليس بدرجة متساوية، غير أن هذا الوضع يبدو جديداً على ساحةٍ طالما تمحورت مواقف قواها حول هويات ومرجعيات إما تحت وطنية، عرقية أو قومية، أو فوق وطنية أيديولوجية أو مصلحية. فكلما رفع أحد شعار لبنان أولاً، أو لبنان للبنانيين، وغيرها من محفزات الوطنية ومظاهر السعي إلى تكوين سياج جامع يحصر أولويات اللبنانيين في لبنان على الأقل أولوية، سرعان ما يصطدم بتلك المرجعيات غير اللبنانية، سواء هذه الأضيق، أو تلك الأوسع من لبنان الوطن.
وعلى الرغم من أن لهذا التغير النسبي أهمية قصوى في الحالة اللبنانية، إلا أنها لن تظهر في المدى القصير، ربما بعد سنوات. أما في القريب العاجل، فإن لبنان أمام تحدياتٍ جمة وعاجلة. فقد قام الحريري بعودتين، عودة إلى بيروت وعودة عن الاستقالة. وبعيداً من أن اجتماعهما معاً يُحيي مجدّداً فرضية أن بقاءه في الرياض كان بهدف تثبيت استقالةٍ فرضت عليه، الأهم أن عودتيه تفرضان عليه، وعلى اللبنانيين، أعباء ومخاطر لا تقل عن أعباء ومخاطر الاستقالة ومغادرة الساحة اللبنانية، طوعاً أو قسراً، إن لم تتجاوزها.
النتيجة الأولى المباشرة لما قام به الحريري، أنه وضع اللبنانيين بين خيارين، أمام أنفسهم. السعي إلى لملمة المبعثر، وترميم ما تكسر، ولو نسبياً. أو المضي نحو حالة من الفوضى السياسية، وهو وضعٌ، في حالة لبنان، ينذر بكارثة محتملة كل ثانية. والمقصود باللبنانيين هنا، "كل" اللبنانيين. من هم مع الحريري ومن هم ضده. فالذين معه صاروا مطالبين بعدم الاغترار بعودته وتراجعه عن الاستقالة، وتأكيد أن المسيرات التي خرجت تنادي بعودته لم تكن فورة حماس مؤقتة، وإنما كانت تعبيراً عن تأييد حقيقي، ليس للحريري السياسي وحسب، ولكن للبنان الوطن الذي يجاهد دائماً للحفاظ على وجوده أمام أنواء ورياحٍ تهب من خارجه، ويحاول باستمرار تأمين حدٍّ أدنى من التعايش داخله. أما من هم ضده، فسيفاجأون، بعد عودته، بأنهم مطالبون بمراجعة حساباتهم، والانتباه إلى أن أسباب غياب الحريري لم تنته لمجرد أنه عاد وسحب الاستقالة أو أجلها. تحديداً، سيجد حزب الله نفسه أمام اختبار المفاضلة بين الانتماء للوطن والتبعية للمرجعية المذهبية.
ربما ليس بشكل مطلق أو نهائي، لكن على الأقل فيما يتعلق بتحركات الحزب الإقليمية، وتحديداً انخراطه في الحرب الدائرة على الأراضي السورية. وعلى الرغم من صعوبة التنبؤ بسلوك حزب الله، إلا أن الهدوء الذي تعاطى به مع مفاجأة استقالة الحريري وغيابه، عكس حرصاً على تجنب الوقوع في فخ تأزيم الموقف في لبنان. وهو ما يجب أن يستمر بعد عودتي الحريري (إلى بيروت وإلى الحكومة).
وإذا لم يتمكن الطرفان من الالتقاء على هذه الأرضية (تجنب الاغترار وتجنب الاستدراج) فإن كارثية الوضع، حتى لو لم يُفعل الحريري استقالته لاحقاً، ستتجاوز بمراحل كارثية عدم عودته أصلاً، سواء إلى الحكومة أو إلى بيروت.

دلالات

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.