عنبر رقم 8

عنبر رقم 8

26 نوفمبر 2017
+ الخط -
عندما تقف في وسط أرض الطابُور في شيء من الانتباه، ظهرك قُبَالة المنصة العالية التي تدير المكان، أما وجهك فينظر أفقياً نحو السرايا، إذن تستطيع قدماك الآن أن تبدأ السير في خط مستقيم، لتصل إلى بداية الممر المنصوب على جانبيه صالات النوم الخاصة بسرية "سمكة"، حاول أن تتعرف على المكان الغريب الذي ستقطنه للتو، عليك أن تقرأ كل ما تقع عليه عيناك، لأن هذا سيساعدك على التأقلم السريع، أو على أقل تقدير مواجهة الحياة الجديدة، وإيجاد طريقة للتعامل معها.
على جانبي الممر، يمنةً ويساراً، فصيلة رقم كذا، وهكذا حتى تصل إلى نهاية الممر. استدر يميناً، بعدما قطعت الممر طولاً وبلغت أقصى طرفه، لترى مكتوباً "عنبر رقم 8". جميع صالات النوم مُعَنوَنة بِمُسَمى الفصيلة إلى جانب رقمها، ما عدا هذه الصالة تحديداً، تحمل العنوان المذكور آنفاً.
السعة الكلية للعنبر تشمل أحد عشر زوجاً من الأسِرَّة المُتَراصة بشكل موازٍ، وكل سرير من طابقين. ومن هنا، ستجد أربع وأربعين جثة تنام في هذا العنبر، شخوصا تنطوي تحت عادات وتقاليد، ثقافات وفلكلورات، بيئات ولهجات متفاوتة، نشترك في بعض الأشياء، نختلف في أمور أخرى، نتعاون أحياناً، نتعارك أحياناً أخرى، لكن في النهاية أصبح العنبر بمثابة بيتك، وعليك أن تنخرط وتخلق لنفسك سَمتَها وطبيعتها الخاصة بين زملاء العنبر، قد يكون أقربهم لك، جارك في الطابق السفلي أو العلوي، أو شخص ينام في بداية العنبر، وأنت في نهايته، وفقاً لما ترتاح إليه نفسك، ويسوقك إليه قدرك، والشائع هنا فكرة إنشاء العُصبَة بواسطة كل مجموعة شبابية.
التَقَيّدُ بمواعيد للنوم والاستيقاظ، الأكل والراحة، حتى الكلام والتنفس، الوقت تقريباً ليس ملك يمينك، لا يمنعنا، سواء داخل العنبر، صالات الطعام، دورات المياه أو حتى في أرض الطابور، من التعبير عن ذواتنا، لأنك لا تستطيع في هذا المكان أن تظل صامتاً، أكان بسبب رهبة المكان الجديد الذي يختلف كليةً عن بيتك، أو بسبب متلازمة التفكير التي من أعراضها الصمت والسَرَحان.
الصمت هنا مادة الهمز واللمز، والقانون السائد هو البذاءة، البذاءة تعني الهيمنة والسيطرة، فأسهل طريقة ليخشاك الجميع ويهابونك، أن يكون كلامك فاحشاً وصوتك جهورياً أجشّ خشناً، مصحوباً بحشرجة بلغم "كأنك شارب حجرين معسّل"، ويا حبذا أن تتناول ألفاظك أجزاء معينة من جسم المرأة، عندئذ مبروك عليك صَّك الهيبة، وعلى الرغم من هذا الجو الذكوري العنيف الهائج، ستلاحظ فعلاً من يبذل قُصَارى جهده، ليبقى في طوره الطبيعي الرشيد.
مهما اختلفنا في آرائنا التي لا تخلو من أهوائنا الشخصية، درجة قبولنا لبعضنا بعضا، نسب الصفات الكريمة والحميدة، وكذلك الخبيثة والخسيسة بيننا، اتفق الجميع على السيكولوجيا المُعقَدة والغامضة لهذا الفتى المُلقَب بـ "سمكة"، هذه السيكولوجيا المعجونة بالبارانويا والشيزوفرينيا وأمور أخرى تحتاج تدقيقا ومزيدا من التقرب والتحدث إليه، لكنه كان روح العنبر والحياة التي تدب في جدرانه، كان كفيلاً أن يُضحِكنا إلى درجة الهستيريا، حتى لو كنت تعاني من إعياء شديد، من الممكن أن تدمع عيناك، وتنبطح أرضاً من شدة القهقهة، فقط راقبه وهو يتحدث أو يتمشى غير مبالٍ بجميع من حوله، إلى درجة أصبح يُشار إلى عنبرنا بالبنان جراء شهرة سمكة.
حان الوقت الرابعة والنصف عصراً، الجميع يصطف في صفوف عرضية، كل صف مكون من أربعة أشخاص، كان موقعنا الصف الثالث من الخلف، "سمكة" يقف على يميني بينما "كيّال" يقف أمامي تماماً، ينادي "سمكة" على "كيّال": اديني سيجارة يا كيّال، يُخرج كيّال علبة السجائر ويعطيه واحدة قائلاً: تحت أمرك يا فندم، السيجارة يا فندم".
يضع "سمكة" السيجارة في فمه منكساً رأسه حتى لا يراه أحد، ثم يطلب قداحة، ينظر كيّال أمامه امتثالاً لأمر الجنرال سمكة مردداً: تمام يافندم! فقط كل ما تستطيع فعله وسط هذا المشهد المسرحي العبثي الكوميدي، أن تضع أي طرف من ملابسك في فمك لتكتم ضحكاتك وتواريها.
أنت الآن في صحبتي، وعليك تلبية دعوتي، لتستمع إلى أوركسترا العنبر الليلية، سيمفونية النوم والغطيط، إذا كنت من ذوي النوم الخفيف أو المُتقطِع، ستستيقظ أثناء السكون الهائل لليل، على صوت المايسترو ومن ورائه خمسة أو ستة ملحنين، المايسترو ينطلق عالياً بلحن الغطيط صعوداً وهبوطاً، والملحنون، كلُّ حسب الآلة الموسيقية الكامنة في حنجرته، يرددون النغمة نفسها، لكن في حدة أقل، تسلية تبعد عنك وحشة الليل الصامت، أما هؤلاء النِيَام الذين يُنَادون على أشخاصٍ لا أعرفهم، فيتمتمون بكلمات غير مفهومة، يعجز القلم عن ترجمتها على الورق. وهكذا تغفو حيناً وتستيقظ حيناً، فتجد الوضع على ما هو عليه حتى مطلع أذان الفجر الأول.
موسى باكثير
موسى باكثير
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
سليمان موسى باكثير