ابتكار التريّث

ابتكار التريّث

26 نوفمبر 2017
+ الخط -
انشغل اللبنانيون، وجزء غير قليل من العرب، بحكاية استقالة رئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري، والبيان الناري الذي قرأه من السعودية مهاجماً إيران وحزب الله، وهو ما فتح باب التأويل واسعاً حول حقيقة الاستقالة ووضع الحريري في الرياض، وما إذا كان محتجزاً أو موضوعاً قيد الإقامة الجبرية. لم يحسم الأمر بعد، ولا تزال حقيقة الوضع خاضعة لكثير من الأخذ والرد، طالما أن الحريري نفسه لم يوضح ما حدث معه.
غير أن سياق الأمور التي رافقت ما قبل خروج الحريري من الرياض وما بعده يمكن أن يعطي فكرة عن الظروف التي عاشها الحريري في الرياض. بدايةً، قد يكون الأمر من التدخل الخارجي، الفرنسي تحديدا، الذي سمح لرئيس الوزراء اللبناني بالخروج من السعودية والاستقبال العائلي الذي أمنه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للحريري، والذي يؤشر إلى أن الزيارة ليست عادية، ولا هي جزء من بروتوكولات رئاسية تعتمدها فرنسا في استضافتها المسؤولين الأجانب. وبغض النظر عما إذا كان الحريري يحمل الجنسية الفرنسية أو لا، إلا أن التعاطي الفرنسي معه أكد أنه لم يكن في وضع طبيعي في الرياض. دلالة أخرى هي الاتصالات الكثيفة التي تلقاها الحريري في الساعات الأولى لمغادرته الرياض، وهو الذي لم يكن يجيب على أي اتصال، إلا في ما ندر، يوحي بأنه كان في شبه عزلة، ومن المؤكد أنها ليست للتأمل، كما قال في مقابلته اليتيمة بعد الاستقالة مع تلفزيون المستقبل.
وبغض النظر عن تحليل المعطيات العينية للوضع السعودي للحريري، يمكن النظر إلى الجانب السياسي، والذي يؤدي إلى النتيجة نفسها، بعدما عاد رئيس الحكومة اللبناني إلى بيروت، ليعلن التراجع عن استقالته، أو "التريث"، كما أحب أن يسميه. وعند مفردة التريث يمكن الوقوف مطولاً لتحليل المعاني السياسية التي تحملها، خصوصاً في ظل ارتباطات الحريري الخارجية، ولا سيما بالسعودية التي لا يزال أبناؤه يعيشون فيها. فالرياض التي طلبت من الحريري الاستقالة، أو دفعته إليها، لن تنظر بعين الرضا إلى تراجعه عنها، حتى في ظل الخلاف القائم بينهما، وهو من جهته ليس في وارد القيام بانقلاب في الموقف على السعودية، على الأقل حالياً، على الرغم من أنه قد يكون راغباً في ذلك. التريث هنا يأتي حلا وسطيا لا يغيظ السعودية، ولا يدفعه إلى قبول ما لا يريده حالياً. هو لعب على الكلام ومرحلة وسطى بين الاستقالة والتراجع عنه، فالرجل لم يعد رئيس الحكومة المستقيل، وفي الوقت نفسه، ليس رئيس الحكومة المستمر في تأدية مهامه بشكل كامل، هو المتريث.
هي فكرة مبتكرة لا شك، قد تكون من بنات أفكار رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي سبق له أن استنبط عبارات كثيرة سارت على هديها السياسة اللبنانية، على غرار النأي بالنفس الذي بات مطلباً سعودياً من لبنان حالياً، كذلك تعبير الحياد الإيجابي، ومن بعده مصطلح "الحكومة غير الميثاقية" الذي أطلقه لدى استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة في عام 2013.
وبعيداً عن أصل الفكرة ومنشأ العبارة، لا يزال الوضع اللبناني يعيش على ترقب أي تداعياتٍ قد تنتج عن "التريث الذي من الواضح أنه لا يعجب السعودية.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".