عندما يفرح اليسار الممانع بمئوية الثورة البلشفية

عندما يفرح اليسار الممانع بمئوية الثورة البلشفية

23 نوفمبر 2017
+ الخط -
تنسى صحيفة اليسار الممانع نفسها من شدّة فرحتها بمرور مئة عام على اندلاع الثورة البلشفية. تنسى أن رئيس تحريرها كان من أسابيع يتوعّد ويُرغي ضد الذين لا يصدقون رواية "محوره" للحدث. يرتدي كتّابها قناع الحفلة التنكّرية للاحتفال بالمناسبة. ثم يروحون يطلقون زخات رومانطيقية، ذابلي العيون، شاردين في الأفق... فبعد أن كانوا يقيسون "الوضع" بميزان القوى، بقانون الصواريخ التي بحوزة حزبهم المفدى؛ بعد أن استقووا بسلاحه على الشعب السوري. ها هم يتحولون إلى "سذج"، أصحاب "الثوابت" العنيدة، والقيم الأخلاقية الثورية.. إلخ. فيخرجون بذلك عن الواقع، ليرتفعوا عالياً في "عالم الأفكار" البائتة، المفوَّتة، التي لم يعد لها أي صلة بالواقع. وقد يكون لهذا "التحليق" وظيفة مفيدة، هي التغطية على جرائم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ضد الشعب السوري؛ فيلتقي "وظيفياً" بجرائم يرتكبها الإيرانيون ومليشياتهم باسم "مقاومة الإمبريالية والصهيوينة"، أيضاً.
فمثلاً، ماذا يعني إصرار رئيس تحرير هذه الصحيفة على أن معركتنا "ما زالت قائمة ضد الاستعمار الغربي"؟ معركتنا قائمة "من أجل التحرير الفعلي من الاستعمار والاحتلال والهيمنة الاقتصادية"؟ وماذا يعني أن "التحرّر الوطني هو القضية المركزية" لشعوبنا؟ وماذا يعني تعيين روسيا اليوم وريثة للبلاشفة الثوريين؟ بصفتها الدعامة الصلبة لـ"الثورة الكاملة" التي يكرّرها ثلاث أو أربع مرات في مقاله الاحتفالي هذا؟ واحد من اثنين: إما أن هذا اليسار لم يعد يعرف كيف يفكر، كيف يعرف.. أو أن مرض الفصام استفحل به، فبات لا يعي أيضاً الفرق بين الهلْوسة والهلْوسة. إذ لا تستقيم هذه الدرجة من "الثورية الكاملة" مع الوقوف إلى جانب بشار، عدو شعبه، وإنقاذه على يد قوات "الرفيق" بوتين الجوية، صاحب الإرث العظيم بـ"التحرّر الوطني من الاستعمار"، ونديمه.
يذكّر هذا التمسُّك بنظرية الأعداء "الثابتين" على امتداد أجيال، هذا الإصرار على أن لا 
استعمار، ولا شرّ، إلا الغربي منه، ولا معركة وطنية إلا ضد هذا الاستعمار بالذات.. يذكّر بحزب إسلامي قديم، هو حزب التحرير الإسلامي، الذي أسسه تقي الدين النبهاني بعيد النكْبة الفلسطينية، وقد توقف نموه الفكري عند لحظة التأسيس هذه، وبقيت أدبياته، حتى يومنا هذا، تقارب السياسة الراهنة بصفتها "صراعاً ضد الاستعمار البريطاني". قد يبدو "طبيعياً" أن يقع حزب إسلامي على زمن سالف، ويثبت عليه. هذا من أصوله الذهنية. أما أن يتجمّد فريق من اليسار على فكرة أو فكرتين، حول "التحرّر من الاستعمار الغربي"، هما مادة فولكلورية للمناسبات والاحتفالات.. وينساهما في خضم تفاعله اليومي مع الحدث، وتبييض صفحة "الرفيق" بوتين الذي يقاتل السوريين حمايةً لكرسي بشار، فهذا ما يضاعف من غلطة اليساري، وربما ذنبه. ففي رقبة هذا الفصام مئات الآلاف من القتلى، وفي رقبته "الفكرية" قعود وتقاعس عن تفعيل النقد الذي يدّعي اليساريون الاستحواذ على مَلَكاته حصرياً دون غيرهم من "الجبناء"، أو "المخاذلين"، أو "الخونَة"، أو "المضلَلين".
والحال أن السؤال الذي يجدر بهم التوقف عنده، في هذه المئوية المجيدة، هو كيف تحولت روسيا من "صديقة الشعوب" إلى عدوتها، إلى طليعة استعمار جديد، يفتك بسورية؛ القوقاز، الشيشان، شبه جزيرة القرم، أوكرانيا الشرقية، ثم الآن سورية. أو أنها لم تكن "صديقة" يوماً، إنما شُبّه لنا. بالقصف الجوي، بالفيتوات في مجلس الأمن، بالديبلوماسية المهيمنة.. روسيا هي الآن اللاعب الأول بمصير سورية. لا تهم وجهتها، إزاء حلفائها أو خصومها، أو "المنسِّقين" معها، الذين قد ينقلبون. المهم أنها غزت سورية، وألحقت بها أضراراً تتجاوز تلك التي أوقعها الاستعمار الفرنسي بانتدابه لها؛ بل بضحايا يفوقون عدد الذين قضى عليهم "العدو الصهيوني". فيما نجاح غزوها لا يعود إلى مؤهلاتها القيادية، إنما إلى انسحاب الأميركيين من سورية وتردّدهم في دعم فصائل الثورة السورية (لا يمنع هذا التردّد من ممارسة الممانعين هوايتهم المفضلة، أي اعتبار الثورة السورية حصيلة "مؤامرة إمبريالية صهيونية").
بوتين سليل الثورة المجيدة لم يَعُد هو نفسه "بلشفياً"، ولا سوفييتياً. صار مزيجاً من قيصر وستالين، ومبايعاً رأس الكنيسة الأرثوذكسية، البطريك كيريل، ناصباً نفسه حامي حمى المسيحيين في الشرق. وهو يكره "الثورات"، ويسيل لعابه على الشعوب الضعيفة؛ أو بالأحرى، الشعوب الضعيفة، أي شعوبنا، هي مجاله المفضل لتسجيل نقاطٍ على الغرب المتداعي، وتمكين روسيا من عظمتها القيصرية. وشعبه المفقر، الخارج لتوه من العالم الاشتراكي، لا يزهو بشيء قدر اعتزازه بعودة هذه العظمة إلى مجدها التليد. عزّة تتجسد بالسيطرة على سورية والتحكّم بخيوط المتنافسين عليها.
بين الاستعمار القديم والاستعمار الآخذ في التشكل الآن أمام أعيننا، ثمّة فارق بالزمن، وفي 
النوعية أيضاً. عدم "الانتباه" إلى جرائم الاستعمارَين، الروسي والإيراني، قد يكون أيضاً ناجماً عن علّة في العقل الممانع، اسمها الكسل الذهني؛ وقوامها أدراجٌ من "التفكير"، تعلوها نظرية غالية على قلبه، هي دائماً الصواب، فيما الواقع هو الغلطان. لذلك عندما تُفتح هذه الأدراج في المناسبات السعيدة، تندلق "الأفكار" أوتوماتيكياً من دون مشقّة، غير جهد الحفظ. كسل مفيد لمحور الفكر الممانع. يخدم جيداً في الاحتفالات. وهو الكسل نفسه الذي لا يحب تعقيدات الواقع إلا عندما يتعلق الأمر بـ"تحليل ميزان القوى". هنا، يبرع اليسار الممانع في التقاط نقاط الضعف عند مجادليه، فيسترسل في غيِّه.
لكن السؤال الذي لا يبارح هو: كيف يتحوّل دعاة "تحرير الشعوب" إلى أعداء لها؟ يستقتلون في الدفاع عمن يقتل شعباً بأكلمه؟ كيف يتحول "النقديون" إلى ببغاوات، يخونهم ذكاؤهم؟ مثل السؤال عن الثورة البلشفية نفسها: كيف تربّى شعب عظيم على المبادئ السامية، وعندما كبر، صار "الأكثر واقعيةً" من بين الشعوب الأخرى؟ أي الأكثر إعجاباً بمنطق القوة وإذعاناً له؟
وسؤال افتراضي: بما أن لا مبادئ روسية غير المصالح الجيوستراتيجية العليا، ماذا لو أملتْ هذه المصالح أن تنفصل روسيا، تدريجاً ربما، عن حليفتها الممانعة إيران؟ أو اضطرت إلى إعادة صياغة تحالفها معها، بحيث، تنتقص من "حصتها" في سورية؟ نفترض فقط: ماذا يكون الكلام ساعتها عن "موطن البلاشفة" و"الرفيق" بوتين؟ وعن "معركة التحرّر الوطني ضد الاستعمار الغربي"..؟