تونس بعد حماس

تونس بعد حماس

21 نوفمبر 2017
+ الخط -
عاد الحديث في تونس عن الشهيد المهندس محمد الزواري، بمناسبة إعلان حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عن نتائج تحقيقٍ أجرته في اغتياله، ولم يُفاجأ بها الرأي العام التونسي، إذ كان واضحا، منذ تنفيذ العملية في ديسمبر/ كانون الأول 2016، أن جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) هو المستفيد الأول من تنفيذ الجريمة، بعد أن علم الجميع أن الشهيد كان عضوا في حركة حماس، وبحكم خبرته الواسعة، تحمّل مسؤولية المساعدة على توفير ما تحتاجه الحركة في صناعة الطائرات المسيّرة.
ما يهم التونسيين هو تأخر الإعلان عن نتائج التحقيق الذي تتولاه الجهات الرسمية التي تعهدت بالكشف عما ستفضي إليه الأبحاث، وإعلام الرأي العام بتفاصيل الجريمة، وبهوية من ارتكبها ومن خطط لها. وتؤكد المصادر المطلعة أن جهود التحقيق متواصلة، وأن تقدّما ملموسا قد حصل، لكن ساعة الإعلان عن النتائج لم تحن بعد.
هناك ثقة في الحكومة التونسية التي ليس من مصلحتها أن تراوغ أو تتلكأ في هذه المسألة االمتعلقة بالأمن القومي. صحيحٌ أن الملف حساس وخطير، ويحتاج إلى كثير من الدقة والإحساس بالمسؤولية، لكنه، في الآن نفسه، ملفٌ غير قابل للمناورة أو التسويف أو المغالطة. وهو أمر يدركه جيدا المسؤولون في الدولة التونسية، مهما كانت مواقعهم.
تغيرت الأوضاع عما كانت عليه. كانت المعلومة محتكرةً ومحاطةً بسريةٍ، تكاد تكون مطلقة، وغير مسموح بالكشف عنها أو ترويجها إلا من رئيس الجمهورية الذي يمسك بقبضةٍ من حديد جميع الأجهزة الأمنية والقضائية والإعلامية حتى لا يتسرب أي خبر من داخل المعبد، إلا بإذن من كهنته. أما اليوم فقد أصبح الوصول إلى مصادر الخبر حقا دستوريا وقانونيا، كما أصبحت المعلومات، بما فيها الخطيرة، على قارعة الطريق، نظرا لتعدّد الجهات المطلعة والمستعدة لتقديمها، حتى في غياب من يطلبها. وبناء عليه، يُستبعد أن تتورّط الحكومة التونسية في أي منزلق غير آمن. يؤكد ذلك أن الجهات الرسمية لم ترفض تقديم المساعدة للأطراف الفلسطينية التي تولت التحقيق في هذه القضية، من دون المساس بمبدأ استقلال مساري البحث لدى الجهتين. كما أن حكومة الوحدة الوطنية في تونس تتشكل من عدد من الأحزاب، منها حركة النهضة، ما يعتبر ضمانة إضافية لاستبعاد احتمال التواطؤ من أجل إخفاء بعض حيثيات الجريمة. فمن يفكّر في ارتكاب هذه الخطيئة سيكون معرّضا للتخوين والاحتراق السياسي والأخلاقي. ودم الشهيد أمانة في رقبة الدولة التونسية، وما أقدم عليه "الموساد" اعتداء مباشر على السيادة الوطنية، وهي جريمة يعاقب عليها القانون الدولي.
قد يتساءل بعضهم: هل يمكن أن تتحمّل تونس مسؤولية توجيه الاتهام مباشرة لإسرائيل في مثل هذه الظروف الصعبة والمعقدة الناتجة عن مخاض الانتقال الديمقراطي؟ عندما يتعرّض شعبٌ لانتهاك متعمد من أي جهة معادية، من حقه، بل ومن واجبه، أن يكشف عن هوية المعتدي، وأن يدينه بكل قوة ووضوح، وأن يطالب المجتمع الدولي بمساندته والوقوف إلى جانبه، من أجل معاقبة من خطط للجريمة ونفذها وارتكبها.
فعل ذلك الرئيس بورقيبة في حادثة الاعتداء على مقر القيادة الفلسطينية في ضاحية حمام الشط. كما فعلها زين العابدين بن علي عند اغتيال الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد). ما المانع إذا أن تقوم الآن الهيئات المنتخبة في تونس، بعد ثورة باركها العالم، بالتنديد والاحتجاج، وتحميل إسرائيل المسؤولية القانونية والسياسية والمطالبة بملاحقة المسؤولين على الاغتيال، وتقديم التعويضات المترتبة عن ذلك. هذا اختبار جديد لمعرفة ما تبقى من مشاعر ثورية بعد أن كثر الحديث عن انتصار قوى الثورة المضادّة في تونس.
وتجيز معطيات عديدة القول إن القضية الفلسطينية لا يزال لها وقع خاص في نفوس التونسيين، وهناك مسؤولون في الدولة، بدءا من رئيس الجمهورية، وفي أكثر من مؤسسة وطنية، إلى جانب رأي عام ومعارضة ومجتمع مدني فاعل. وكلهم يفترض فيهم أنه أمام المسّ في السيادة الوطنية لا تنفع الحسابات الصغيرة والأطماع الشخصية. أما الأصوات التي قد تحاول تمييع الجريمة والتشويش عليها بخلط الأوراق، فعليها أن تصمت، عندما يتعرّض الوطن إلى العدوان، خصوصا عندما يكون المعتدي إسرائيل، ويكون الشهيد أحد المخلصين من أبناء تونس.