إميل حبيبي في "الميادين"

إميل حبيبي في "الميادين"

19 نوفمبر 2017
+ الخط -
بعد أيامٍ من تسلّمه جائزة إسرائيل للأدب العربي للعام 1992، من رئيس الحكومة في حينه، إسحق شامير، في احتفالٍ بعيد "الاستقلال" الإسرائيلي، استُضيف إميل حبيبي في ندوتين حواريّتين معه في الرباط. أتذكّر أمريْن من سماعي فيهما الأديب الفلسطيني المُجيد: أنه لا يستطيع التعبير عن نفسه بشكل جيد مُرتَجِلا. كان يدردش كيفما اتفق، ما يعني أنه أقدر على قول ما يريد كاتبا أكثر منه متكلما، فليست لديه كفاءة الحديث المتماسك الطلق. وأنه، في ردّه على أسئلةٍ بشأن مبرّراته قبول تلك الجائزة، كان يُؤثر الهجوم اللفظي الحاد على من انتقدوه لتسلّمها، وبمفرداتٍ غير لائقة، وبفظاظةٍ هازئةٍ لم نستحسنها نحن مستمعوه. 

الظاهر أن ثمّة محبين لشخص الأديب الراحل، ومولعين به، فيهم الأمران، كما اتضح في الفزعة المستغربة التي بادروا إليها، أخيرا، ضد حلقةٍ من برنامج "في الهوامش" عن "إميل حبيبي.. السياسة في هوامش الأدب"، في قناة الميادين. فقد تبدّى أن هؤلاء ليسوا على السويّة الكافية في التعبير جيدا عن قناعاتهم وآرائهم في شأن ما عرضته الحلقة، أقلّه كما جاءت عليها فزعُتهم هذه في حيطانهم في "فيسبوك". وربما هو انفعالهم الغاضب والمتوتّر جعلهم على حالهم هذا، ربما. كما أنهم توسّلوا رمي هجماتهم، وبألفاظٍ ومفرداتٍ غليظة، على "الميادين"، وعلى مشاركين في شهاداتهم في الحلقة (لا أستطيع إخفاء عدم إعجابي ببعضهم)، من دون إبداء أي وجهات نظر في المنطوق العام للحلقة التلفزيونية بخصوص إميل حبيبي، إنْ كانت قد اشتملت على أي افتراء ضدّه أم لا؟ وإنْ جاء فيها ما هو كاذبٌ أم لا؟
والبادي في أفهام أصحابنا هؤلاء أن الراحل، الكبير حقا أديبا وروائيا، هو أحد الرموز المقدّسة للشعب الفلسطيني، وكأن هذا الشعب ينقصُه مقدّسون ومقدّسات. فيما الأمر بكل بساطةٍ أن إميل حبيبي اجتهد في خياراته السياسية الخاصة به، ومن حق أي فلسطيني (وأي عربي طبعا) أن يناقش أمره، اختلافا أو اتفاقا أو بيْن بيْن. ومن موقع الاختلاف التام، مع قناة الميادين، بل والمناهضة الكاملة لانحيازاتها إياها، لا يجد صاحب هذه السطور حرجا في القول هنا إن الحلقة التلفزيونية جاءت متوازنةً إلى حدٍّ طيب، وعرضت ما كان عليه حبيبي سياسيا بمقادير معقولةٍ من المهنية الموضوعية. وإذا كان أولئك الساخطون منها قد استاءوا مما قاله فيها رجا اغبارية، فإنهم بدوا مسرورين بما تحدّث به اثنان آخران فيها. والأسئلةُ أساسا: منذ متى كانت مواقف الشيوعيين الفلسطينيين، منذ نكبة 1948، موضع إجماعٍ على الاحتفاء بها؟ وما هي الإساءة المُغرضة التي أرادتها "الميادين" لإميل حبيبي (ولكفاح الشعب الفلسطيني!) في إتيان برنامجٍ فيها على موافقته على قرار تقسيم فلسطين، ونبذه أي "مغامرة فاشلة" لأي حربٍ عربيةٍ من أجل تحرير فلسطين؟ وأي عقليةٍ إقصائيةٍ، وغير ديمقراطية، هذه التي ترى أن إميل حبيبي لا يحتاج إلى شهادةٍ من أي أحد؟
كان صاحب "المتشائل" يرى البقاء في وطنه نوعا من مقاومة إسرائيل، وظل يؤكّد على هذا الأمر الذي استرسلت الحلقة التلفزيونية في قناة الميادين في تظهيره. ومعلومٌ أن موضوعة فلسطينيي الأراضي المحتلة في 1948 عويصٌة ومركّبة، ولا يجوز الإفتاء بشأنها كيفما اتفق، وهذا ما قد يجعل أي انتقادٍ سياسيٍّ لإميل حبيبي، يأخذ هذا الأمر في البال، فيأتي في الغالب مخفّفا، غير أنه ليس مقبولا أبدا أن تسوّغ هاته المسألة أي تقديسٍ لشخصه، ولا أن تُسيّج أي نقاشٍ في الحالة الفلسطينية الخاصة بأولئك المرابطين في وطنهم بالميوعة الفالتة التي صارت ملحوظةً لدى عديدين. .. وحدها الرؤى الوطنية الكفاحية، ذات النزوع الديمقراطي الذي يحمي هوية الفلسطيني في وطنه (من الأسرلة طبعا)، معطوفةً على البحث التاريخي، العلمي والتحليلي والنقدي الحر، هي التي يحسُن أن يُهتدى بها في نقاش مسألة إميل حبيبي وتاريخه السياسي، وفي غير شأن هذا الكاتب الذي أحببنا أدَبَه، ولم يُقنع كثيرين من شعبه الفلسطيني الواحد بغير قليلٍ مما كان عليه سياسيا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.